لا تترك بعد عمرك مكتبة مهجورة
المكتبة تعذّب صاحبها عفياً، وتعذّبه شيخاً، وقد اقترب من أول العجز. هي كالذنب على قلب صاحبها من دون أن تكون كذلك، في حياته يخصّها بألفة الجلوس، وقرب النهاية يخاف عليها من لؤم النهاية وزوال هيبة الكرامة في المكان، بعدما صار وجودها غريباً على الوارثين والأولاد والمكان، وكأنّ المكان يخجل منها، فما بالك لو كان المكان نفسُه قد صار مهجوراً؟
الكتب أثقال مروءةٍ، سواء أكانت من تأليفك أو تأليف غيرك، ثم تركتها، بعد عمرك، لزمانٍ قلّت فيه المروءة، وانصرف احتمال الناس أشياء أخرى، كالموضة وكرة القدم، وباتت الكتب أشياء مركونة في الغرف، في انتظار التخلص منها بأيّ حجة أو وسيلة.
هل كان أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه في بطن الأرض محقاً، فلم يوجد لها أيّ أثر؟ وهل كان داود الطائي سعيداً حينما طرح كتبه في البحر، وقال يناجيها: "نعمَ الدليل كنتِ، والوقوف مع الدليل بعد الوصول، عناء وذهول، وبلاء وخمول"؟ وهل كان أبو سليمان الدارتي مخبولاً حينما جمع كلّ كتبه في تنّور، وسجرها في النار، ثم قال قولته: "والله ما أحرقتك، حتى كدت أحترق بك"؟... ما سرّ كلّ تلك المخاوف من أصحاب الكتب على كتبهم بعد انتهاء أعمارهم؟
وبالطبع، يظل أبو حيان التوحيدي، وارتحاله من العراق للريّ، بعلّة الفقر والحاجة، ثم هروبه الأخير إلى شيراز، وارتكانه للتصوّف، بعدما تعب من الزمان والوزيرين وضغائن صغار الموهبة، فماذا تفيد المخطوطات لرجلٍ هاجر وارتحل، حتى وصل إلى المائة وتعدّاها وبنكد الحاجة والطلب نفسه؟
تحلو لنا الكتب ونحن على أعتاب الطلب، قرّاءً كنا أو مؤلفين. هي زاد من ينتظر أن تجعله في صدارة المجلس لجلب الأمجاد والثناء والرئاسة، وهي السلوى للقارئ، وهي المنقولة وراء ارتحالته من مكان إلى آخر. وغالباً لا تحبّها الزوجة، وكأنّها ضرّتها. أما إن تحوّلت الكتب في البيت إلى ما يشبه "الكرنفال في كلّ ركن" فأحياناً تستعير الزوجة من دكاكين الصبر ما يكفي للتجمّل أمام صاحبها الكاتب، وإنْ لم تستطع إخفاء "خنقتها من تلك الجثث" لأمها أو أختها، وقبل الأربعين من موته، تكون كراتين الكتب محمولةً على العربات بأرخص الأسعار، وأحياناً ترمى في "المناور" بلا خجل، ويتعفّف عن جمعها بوّاب العمارة.
الكتب ضعيفة لا تدافع عن نفسها، كبقرة أو حصان أو فيل أو نخلة أو أرض زراعية، لأنّها "قيم رمزية في ورقٍ مطبوع". يتم ركنها فوق الأرفف، والدساتير أيضاً يتم ركنها فوق الأرفف، وتأكلها تحايلات المحامين ومواربات القضاء. الدساتير من ورق يتم القسم عليه، ثم تتم خيانته، أيضاً فيما بعد، فما بالك بكتابٍ تركه مؤلفٌ مسكين من شيراز أو نيسابور، وكانت له مساجلاتٌ مع علماء خراسان ثم غرق في نهر صغير، وكان على ظهره مخطوطاته، فضحك الأمير على العالم ليلاً، وهو يشوي لحم الغزال، ويستمع للطرب. الكتب تلك الأشياء البسيطة التي يحاول الخلفاء جاهدين أن يشتروها لصغارهم، كي يعرفوا البلدان والمعارك وخبث الحكم وزلات اللسان وتأدب الأدباء بعد الولائم، هذه الكتب التي تزداد أوزانها حينما يضعف البدن ويتفرّق الأحباب والأولاد عنا في البلدان، جرياً وراء الأرزاق والسيارات والبناء وتجديد العفش وحجز تذاكر السفر، ما الذي يبقى لها من رعاية لدى مسنٍّ أصبح يتحرّك قليلاً حول حوافها، ويفتح بعضَها كي يتأكد أنّ الخيال ما زال صالحاً، وأنّ الذاكرة ما زالت مشرعة للأمل، وأنّ المكان بالكتب أيضاً قد صار جميلاً لولا تقدّم العمر.
يتأمل الأصحاب القدامى الكتب، فترى أشياء يصعب اليقين في مدى تحديد دلالاتها، هل هو استعجابٌ أم اندهاشٌ أم سخريةٌ غير مصرّح بها مراعاةً للسنّ والمشاعر؟
الكتب تلك التي تتولّى أمرها، أو تتولى أمرك، من دون أن يعرف الزائر أو الابن أو الصديق، تحاول جاهداً أن يكون الوقت جميلاً بالشاي، إلّا أنّ الكتب وكأنّها تلاحظ خجلك، أنت الريفي الذي لم يرَ يوماً كتاباً لا تحت نخلة، ولا فوق فرن طيني، ولا فوق مصطبة أو شباك، فجأة ترى نفسك محاطاً بها لحاجتك إلى "عافيتها" بعدما قلّت العافية، وزاد سحر الكتب على روحك.