لا حصّة للبنانيات في نظام المحاصصة
حين سقط مقترح قانون إقرار "الكوتا النسائية" في مجلس النواب اللبناني، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ليتم العمل به في الانتخابات النيابية المقبلة، كوتا تحفظ للنساء حيزاً مُلزِماً للترشّح والانتخاب بنسبة 24 مقعداً من أصل 128، كان ذلك دليلاً على عدم جدّية غالبية ممثلي الشعب في شعاراتهم المؤيدة لحقوق النساء. ذلك أنّ تأثير النساء في السياسة في لبنان يمكن أن يوظّف بشكل إيجابي، يدفع إلى تغيير النظام القائم على المحاصصة الطائفية. برز هذا التأثير في ثورة 17 تشرين (أكتوبر 2019) التي شاركت فيها النساء بما يوازي النصف، وكان عديد منهن قد تولين قيادة التظاهرات.
صحيحٌ أنّ قضية تحرّر المرأة حقوقية، وجزء عضوي في شرعة حقوق الإنسان الدولية، لكنّها أيضاً، في جوهرها العميق، قضية سياسية، قد يقلب حلها الموازين في العالم، وليس في لبنان وحده. وإن كان تبوؤ النساء مناصب في سلطات الدول أو لبنان لا يعني، بالضرورة، أنّ من وصلن إلى مراكز صنع القرار يتبنين قضية المرأة والقضايا التي ارتبطت بها على مستوى العالم، كقضايا البيئة ووقف النزاعات المسلحة وتحقيق السلم العالمي وتحرير التجارة ومناهضة العولمة الرأسمالية بمضمونها الاقتصادي... إلى آخره من قضايا البشرية العادلة. إذ رأينا نساءً تبوأن السلطة في لبنان، لكنهن مثّلن أحزاباً طائفية، أو كن زوجات أو شقيقات لأحد أمراء الطوائف ومثّلْن مصالحه. قلة منهن كن أميناتٍ لقضية المرأة وقضايا الشعب العادلة، كما قضايا محاربة الفساد والهدر وإساءة إدارة مؤسّسات الدولة، بل عملن لمصلحة المنظومة السياسية الطائفية الحاكمة، فقد كانت هنالك مستقلات، كبولا يعقوبيان، ومنهن من انتمين لكتل نيابية وازنة، كالنائب عناية عز الدين (كتلة التنمية والتحرير) التي قدّمت مشروع القانون للجلسة النيابية، وطرحته للنقاش الجدّي (لم يناقش سوى دقيقتين)، ثم التصويت عليه. ما حدث أن النقاش كان صورياً وسريعاً على قاعدة رفع العتب، وما لبث أن أُسقط مقترح القانون حين وُضع للتصويت. لم ينبس كثيرون ببنت شفة للاعتراض، ولم يقيموا الدنيا ولم يقعدوها اعتراضاً على الاستخفاف الذي قوبل به المقترح مثلاً.
فساد المنظومة الحاكمة المتمثلة بغالبيتها في مجلس النواب، والقائمة على نظام المحاصصة الطائفية يفسّر سقوط مقترح قانون "الكوتا النسائية"
مرّت خسارة مقترح قانون الكوتا النسائية حدثاً أقل من عادي، بينما طغت على سطح الاهتمام قضايا أخرى، اعتبرت ذات أهمية أكبر بكثير (تنحية القاضي طارق البيطار/ تصريحات جورج قرداحي عن اليمن/ قضايا معيشية..). وذلك على اعتبار أن النقاش في حقوق النساء يأتي من باب الفولكلور الذي تتغطّى به السلطات، كي تخفي عيوبها الفاقعة، وحين يأتي المحكّ تسقط الأقنعة، وتُعامل مقترحات قوانينها بوصفها قضايا ثانوية يمكن تأجيلها، بينما في الحقيقة هي قضية سياسية بامتياز، إذ يؤدّي حلها إلى حل معضلةٍ تاريخيةٍ للمجتمع الإنساني، ارتبطت بعبودية النساء، ليس فقط للنظام الذكوري، بل أساساً للنظم الطبقية المتعاقبة، سيما النظام الإقطاعي، وتالياً النظام الرأسمالي. ولا يعفي هذين النظامين الاقتصاديين السياسيين من المساءلة تبوؤ ملكات العرش، مثل إليزابيث (بريطانيا) وماري أنطوانيت (فرنسا) أو حتى هيلاري كلينتون (خادمة مجموعات الضغط الرأسمالية في "وول ستريت") وزيرة خارجية أكبر ديمقراطيات العالم، والتي كادت تفوز بالمقعد الرئاسي في الولايات المتحدة عام 2016.
أولئك جزء من المنظومة الاقتصادية نفسها، ولا يهمهن كثيراً تحرير النساء من سلطة الذكورية، فهن يستمددن قوتهن ونفوذهن من سلطة النظام الإقطاعي أو الكنسي أو الرأسمالي، أو الشمولي أيّاً كانت صبغته الشيوعية كما في الصين والاتحاد السوفييتي سابقاً. لذلك، لطالما اعتُبرت ممارسة السياسات التي تحرّر النساء موضع محكّ للأنظمة، مهما كان لونها ووزنها. فقضية النساء سياسية تاريخية، تحتاج عملية تغيير دؤوبة على مستوى تغيير الوعي والتشريعات، قد تمتد قروناً كي تشفى البشرية من آثارها الضارّة على النوع البشري. لذلك كان السعي الذي تمثله مجموعات الضغط النسوية والمؤتمر الرابع للمرأة في بكين عام 1995 الذي أقرّ ضرورة فرض "كوتا نسائية" في البرلمانات ودوائر صنع القرار حول العالم، يهدف إلى تسريع التغيير المجتمعي السياسي، كي تتخلّص المجتمعات البشرية من آفة استعباد النساء. هي آفة تتغلغل عميقاً في جذور الوعي الإنساني، وتحتاج ربما سنوات ضوئية، كي نعود إلى الفطرة الطبيعية البشرية التي يولد وفقها البشر بوصفهم أحراراً مكتملي الحرية، أياً كان جنسهم. ولذلك، اعتبر إقرار "الكوتا النسائية" مساراً مُلزِماً، فيما نهج عمل مؤتمر بكين، وإن كان قانونياً يبدو في الظاهر غير ديمقراطي، لكنّه نجح في بعض الدول في العثور على طريقه، خصوصاً، مع تصاعد المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات والتصدي للتحديات التي تواجهها النساء في النضال ضد كلّ أشكال التمييز.
على الرغم من التقدّم الذي أحرزته الحركات النسوية في العالم، ما زالت النساء يعانين من التهميش، وضروب الاستغلال بحقهن مستمرة
وعلى الرغم من التقدّم الذي أحرزته الحركات النسوية في العالم، ما زالت النساء يعانين من التهميش وضروب الاستغلال بحقهن مستمرة. وهو ما أثر و"ما زال يؤثر" في تقدّم المجتمعات في العالم، بل في الديمقراطيات الغربية نفسها، وإنْ بنسبٍ أقل، سيما أنّ عوائق تحرير النساء لا تأتي من القوانين والتشريعات، بل كامنة في ثقافة المجتمعات والوعي السائد الذي ما زال يحطّ أو ينتقص من مكانة المرأة وأهليتها لتولي شؤون حياتها من غير كفيل رجل يرعاها، هذا إنْ لم نأتِ على معاناتها بشكل مضاعف من النظام الرأسمالي العالمي وتجلياته الإمبريالية وأشكاله التي تتخذ ألف لبوس ولبوس، فالتمييز ضد النساء يلحق ضرراً مباشراً وغير مباشر بالرجل، فهي تشاركه تبعات المظالم التي يتعرّض لها، وينسحب ذلك على مشاركتها في الحياة السياسية ودوائر صنع القرار. وإن كان لقضية المرأة بعد ثقافي واجتماعي فإنّها قضية سياسية بامتياز، إذ ما زال التمييز ضد المرأة هو السمة الغالبة في الأنظمة السياسية في العالم، وإن اختلفت نسبة التمييز من دولة إلى أخرى، سيما في الديمقراطيات الغربية، فضمان مشاركة النساء في الحياة السياسية ودوائر صنع القرار ما تزال ضعيفة حتى في تلك الديمقراطيات، ولا تعكس الديموغرافيا الطبيعية للمجتمعات كافة، لأنّ هذه المشاركة السياسية تعني في ما تعنيه أنّ المرأة، في دوائر صنع القرار السياسي، ستكون قادرةً على إلغاء التمييز ضد المرأة في المجالات كافة، إن هي تمثلت في الدوائر جميعها، وليس في البرلمانات فحسب، وبالنسبة الفعلية التي تشكّلها وهي نصف المجتمع. ولأنّ هذا يحتاج زمناً طويلاً قد يتسبّب باستفحال هذه المعاناة، على الرغم من نضالات النساء والحركات النسوية. وعلى الرغم من التطور الطبيعي لإمكاناتها التي منحها إياها التعليم، وساهم في أن تتحوّل إلى منافس عالي الندّية لزملائها الرجال في أسواق العمل، وإنْ كانت، وما تزال، ليست كذلك في الحياة السياسية، بل ربما ممنوع عليها أن تصل حتى إلى سدّة البرلمان بأعداد وازنة، خشية أن تغيّر فيه من واقعها وواقع مجتمعاتها التي تتحكّم فيها أنظمة رأسمالية وأخرى مستبدّة تمعن في تزييف إرادة شعوبها تحت ستار ديمقراطية مقنّعة تحمي استمرار الوضع السائد، وتعطي الفتات في ما يتعلق بحقوق النساء أو أقله في اتباع نظم جندرية لا تميز على أساس الجنس. وإن كانت هنالك نجاحاتٌ تم تحقيقها في دول عديدة بادرت إلى اتباع نظام الكوتا النسائية في دستورها، إذ تمثلت عام 2015 في مجلس النواب في رواندا بنسبة 63.8%، وفي بوليفيا 53.1%، وفي كوبا 48.9%، وأيسلندا 47.6%، والسويد 43.6%، وهي من أوائل الدول مع أن نسبة الكوتا الملزمة فيها لم تتجاوز 23%، فضلاً عن بعض الدول العربية كتونس (كوتا 50%) ومصر والأردن .. والعراق الذي تجاوزت نسبة تمثيل النساء في الانتخابات النيابية الأخيرة الكوتا النسائية المُلزِمة 25%، وفازت بـ79 مقعداً في سابقة عربية مدهشة، فيما يأتي ترتيب لبنان في سلَّم تمثُّل النساء في المجلس النيابي من الأكثر تدنيّاً في العالم بدرجة 180.
رأينا نساءً تبوأن السلطة في لبنان، لكنهن مثّلن أحزاباً طائفية، أو كن زوجات أو شقيقات لأحد أمراء الطوائف ومثّلْن مصالحه
لكنّ فساد المنظومة الحاكمة المتمثلة بغالبيتها في مجلس النواب، والقائمة على نظام المحاصصة الطائفية، يفسّر سقوط مقترح قانون "الكوتا النسائية" في التصويت في السابع من أكتوبر الماضي في المجلس النيابي اللبناني، لأن النساء في السياسة خطر داهم على المنظومة السياسية الفاسدة، وعلى نظام المحاصصة الطائفية الذي يرفض وسيظل يرفض منح النساء حصة مُلزِمة لهن في البرلمان، فيما يواصل استمتاعه بنظام محاصصته الطائفية المتخلف عن ركب الحضارة ورياح التغيير. خطر قد يهزّ عروشهم وعروش كل من يتدّخل في السياسة بغير اختصاص ويحجبها عن النساء. أقصد هنا رجال الدين، فالتغيير في لبنان رهن بمشاركة المرأة ورؤيتها الجديدة لعالم جديد، ليس على مستوى الشارع، بل أيضاً في سدّة البرلمان، صعوداً لرئاستي الحكومة والجمهورية في نظام مدني حرّ ديمقراطي، لا مكان فيه لأمراء الطوائف ورجالات دين يتدخلون في السياسة، ويمنعون على اللبنانيات أبسط حقوقهن، وهو حق تقرير المصير، وحقها في صناعة مستقبل بلدها، هنا في لبنان، وهناك في كل أنحاء العالم. وإلى أن تتوقف الكتابة عن قضية النساء لأن تكون حكراً على يوم المرأة العالمي، كي تصبح كلّ الأيام لهن، وحينها، لن تكون هنالك حاجة لحصة مُلزِمة أو كوتا نسائية في دوائر صنع القرار.