لا صوت يعلو في مصر على غرف الصدى
(1)
تخيل أنّك في غرفة معزولة، فيها بعض الأفراد الآخرين يقنعونك أنّ البرتقالة التي تراها أمامك هي تفاحة، إجماع وترديد لا نهائي لكذبة البرتقالة التفاحة. إذا حاول أي عنصر جديد دخول الغرفة والتضامن معك بشأن حقيقة البرتقالة سيُواجه المقاومة وربما أشرس. قد يقصى عن الغرفة أو حبسه في غرفة أخرى، أو غير هذه وتلك من سبل القمع، حتى ينتهي بك الحال وتسلم بأن البرتقالة تفاحة.
أجرى علماء النفس تجارب مشابهة على قرود لدراسة سلوكياتهم المختلفة تجاه القمع، وربما ذلك ما ألهم النظم السلطوية، ليس إيمانا منهم بنظرية داروين، ولا بالعلم، بل بجدوى النتائج التي أظهرتها الدراسات، ففي النهاية يقتنع الغالبية أنّ البرتقالة تفاحة، وربما على المدى الطويل تتغير خصائص البرتقالة ذاتها، لتتماشى مع وصفها الجديد، لكن كلّ صوت جديد داخل الغرفة أو حولها هو تهديد كبير لما استقر عليه الحال في غرفة الصدى.
(2)
لم أفهم قط وأنا صغيرة كيف استطاعت الأجهزة الأمنية في مصر، إبان فترة النكسة في 1967، السيطرة علي عقول المصريين، وإيهامهم بالنصر، حين كان جنودنا يموتون عطشاً في البرية ويصطادهم عناصر الكيان الإسرائيلي كالحيوانات في صحراء سيناء، من دون حماية أو رادع. لم يستطع خيالي القاصر تصوّر حجم السيطرة الأمنية المزمعة على الخطاب الإعلامي بشكل غيّب العقول إلى هذه الدرجة.
(3)
على مدار الثمانية أعوام الأخيرة، نجح النظام في مصر في تحويل الساحة الإعلامية المحلية إلى غرف صدى متعدّدة. وغرف الصدى هي "نشر أفكار وقناعات معينة داخل نظام مغلق، بحيث تكون معزولة عن أية طعون أو نقض من دون السماح بتعدّدية الآراء أو مصادر المعلومات". سيطر النظام على القنوات التلفزيونية والصحف القومية والمستقلة، سواء بالاستيلاء المباشر، والشراء أو تخويف الملاك حتى تنازلوا عن حصصهم في الصحف المستقلة، كما حدث مع رجل الأعمال صلاح دياب وغيره.
تتبارى مؤسسات الدولة وأدواتها في ترويج الحوار الوطني، وما يحمله من حال انفتاح، زائفة، مزمعة في المجال العام في مصر
انتقلت الإدارة إلى السيطرة على المواقع الإخبارية المستقلة في فضاء الإنترنت، سواء عبر تبعيتها للكيانات الإعلامية التي سيطرت عليها أو عبر حجب المواقع المعارضة والمستقلة، ووضع قيود قانونية ومالية تقيد إنشاء مواقع إلكترونية مستقلة، سواء لنقص الموارد أو لخوف أصحابها من الملاحقة الأمنية التي انتهت ببعضهم في السجن سنوات عديدة.
في النهاية، اكتملت الدائرة وأطبق النظام سيطرته على الخطاب الإعلامي في مصر، ففي النهاية لا صوت يعلو علي صوت المعركة (لا نعلم ما هي) ولا صوت يخالف تعليمات جهاز "السامسونغ". شاهدنا سوابق إعلامية على الهواء تؤكد سيطرة الأجهزة الأمنية على الإعلاميين والخطاب الإعلامي، فأصبحت مانشيتات الصحف، القومية منها والمستقلة، نسخة طبق الأصل من دون أي ابتكار أو محاولة للتجديد. منع كتّاب مرموقون من الكتابة في أي من المنصات الإعلامية، وحتى منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي تتعرّض للتدقيق الأمني والملاحقة المستمرّة. اختفت أخبار ومقالات في لمح البصر، لأنها لم تلتزم بقواعد غرف الصدى. فبعد كلّ شيء لماذا تخاطر بطرح أفكار تغضب جنرالاً أو مسؤولاً إذا كنت تعلم أنّ مصيرك أنت وأفكارك المحتوم في السجن.
(4)
بينما تتبارى مؤسسات الدولة وأدواتها في ترويج الحوار الوطني، وما يحمله من حال انفتاح، زائفة، مزمعة في المجال العام في مصر. وبينما تتوالى أخبار خروج محدود للمعتقلين السياسيين الذين عانوا الأمرّين بين نظام انتقامي وقضاء مسيس، يأتي خبر حجب موقع المنصّة للمرة 13 منذ عام 2017، ليطرح علامة استفهام بشأن جدّية الحوار. ليس لأنّ الموقع منصة ثورية أو سياسية بشكل أساسي، لكن لأنه أحد المنصّات المستقلة التي تعد على أصابع اليد الواحدة في مصر التي تغرّد خارج غرف الصدى. جاء الحجب هذه المرة بعد 11 يوماً من الانطلاقة الجديدة للموقع بسلسلة من التحقيقات، وإعطاء مساحة في مقالات الرأي لكتاب وإعلاميين وسياسيين أقصتهم الأجهزة الأمنية منذ 2013، وهو الأمر الذي أغضب المسيطرين على الغرفة، وجعلهم يشعرون بأنّ قبضتهم تتهاوى على المشهد الإعلامي.
حجب ما يزيد عن 600 موقع إلكتروني حتى 2021، وما يزيد عن 50 صحافياً غيبتهم السجون، ناهيك عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين والحقوقيين
(5)
رصدت المنظمات الحقوقية وكذا المتخصصون التقنيون حجب ما يزيد عن 600 موقع إلكتروني حتى 2021، ووثقت ما يزيد عن 50 صحافياً غيبتهم السجون، ناهيك عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين والحقوقيين المقدّرين بما يزيد عن 50 ألف معتقل في السجون. من دون الخوض في تفاصيل التقارير الحقوقية التي رصدت حالة حرية الإعلام في مصر، فإننا نشهد تغولاً غير مسبوق من الأجهزة الأمنية في المجال الإعلامي، تتجاوز حتى الذكريات المؤلمة للحقبة الناصرية على يد صلاح نصر وأعوانه. أصبحت الكيانات الإعلامية في مصر تتناقل الحجج والتبريرات ذاتها بحس شوفيني يتناسب تماماً مع السيطرة العسكرية على مقادير الدولة، أصبح الاختلاف جريمة والتعدّد تهمة تودي بأصحابها في السجن.
(6)
دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحوار الوطني في إفطار الأسرة المصرية في رمضان الماضي. لن تدخل المقالة هنا في تفاصيل أكاديمية عن سبب عدم نجاح الحوار الحالي، ولكن وفقا للأدبيات المتعارف عليها فيما يتعلق بحلّ النزاعات وطرق وآليات عمل مصالحة وحوار وطني يأتي فتح المجال العام وحرية الرأي والتعبير ركناً أساسياً لإشاعة حالة من الحوار وضمان إشراك كل الطوائف والتعبير عن كلّ التيارات والسماح بمناقشة الأفكار والأطر التي تجري مناقشتها في الحوار الوطني.
والسؤال هنا: كيف يتسنّى لهذا أن يحدُث، والدولة ما زالت تحجب عن المصريين المعرفة، وتقيد حقهم في الوصول إلى المعلومات، كيف ستشرك الدولة المواطنين والمواطنات الذين جرى إقصاؤهم ثمانية أعوام عن المشهد العام في حالة الحوار، من دون السماح للمواقع بالعمل ورفع الحجب والسيطرة الأمنية على الكيانات الإعلامية، كيف يمكن طرح مخرجات جلسات الحوار والتعاطي معها من دون أن يسمح لأصوات جديدة أو قديمة غيبت سنوات بالعودة إلى الاشتباك مع قضايا الشأن العام، وهم مهدّدون إما بحجب المواقع التي ينشرون فيها، أو منع كتاباتهم من الظهور خارج دوائر وسائل التواصل الاجتماعي. تحرير الإعلام من القبضة الأمنية، رفع الحجب عن المواقع، السماح للوجوه المعارضة ذات المصداقية بالظهور والمشاركة، إتاحة المعلومات بشفافية تامة عن مجريات أعمال جلسات الحوار الوطني، والسماح حتى بانتقادها أولوية لا بدّ أن تكون في صدارة جدول أعمال مجلس أمناء الحوار، فلا حوار أو مصالحة حقيقية يمكن أن تجري في غرف الصدى.