"لا يعرف الفلسطينيين مَن يظنّ أنهم سيستسلمون"
يتمثّل أحد جوانب النقد الإسرائيلي الداخلي للحرب الوحشية على قطاع غزّة، وإن كان خجولًا بعض الشيء، في أن دولة الاحتلال لم تستخلص الدروس الكافية من الحروب السابقة على القطاع، وتحديدًا منذ أنشئت فيه سلطة حركة حماس عام 2007، وبشكل عينيّ في كل ما يرتبط بمقاومة الشعب الفلسطيني وغاياتها، والتمسّك الإسرائيلي بالافتراض الخطأ أنه إذا جرى توفير بحبوحة اقتصادية للفلسطينيين سيتخلون عن حلمهم بالاستقلال وتقرير المصير، كما وصف ذلك قبل أيام الرئيس السابق لجهاز الشاباك والقائد السابق لسلاح البحر الإسرائيلي، عامي أيالون، الذي أكّد أيضًا أنه إذا كان ثمّة مَن يظنّ أن الفلسطينيين سيستسلمون، فهو لا يعرف الفلسطينيين ولا "حماس"، لا من قريب ولا من بعيد.
ولا يقتصر الأمر على هذا، بل وينسحب على موضوع الأهداف التي تضعها المؤسّسة السياسية لكل حرب، وتستحقّ التذكير بها، فالحرب الحالية تُقارن، من بين كل الحروب الإسرائيلية السابقة على غزّة، مع الحرب الأولى إثر صعود سلطة "حماس"، والتي سميت "عملية الرصاص المصبوب"، وشُنّت بين 27/12/2008- 17/1/2009 إبّان ولاية إيهود أولمرت في رئاسة الحكومة. وظلت هذه الحرب تفتقر إلى هدفٍ محدّد، حتى بعد مرور أسبوعين على اندلاعها. وفي أثناء ذلك، بقي الهدف الغالب على الخطاب الإسرائيلي العام "جعل حركة حماس تتخلّى عن الرغبة في مهاجمة إسرائيل". بعد ذلك، جرى تحديد ثلاثة أهداف رئيسية: تحقيق الهدوء على الجبهة الجنوبية فترة طويلة؛ وقف "عمليات التهريب" إلى القطاع؛ الإفراج عن الجندي جلعاد شاليط، الذي كانت "حماس" تحتجزه منذ يونيو/ حزيران 2006.
ويمكن أن نستعيد من ردّات الفعل عليها، وهي عصيّة على الحصر، تأكيد كبير المعلقين السياسيين في صحيفة هآرتس، يوئيل ماركوس، بشأن فشلها، وإشارة رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الجنرال احتياط غيورا آيلاند، إلى أن من الصعب إبداء أي قدرٍ من الحماسة لها بعد نحو نصف عام من انتهائها، فإطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل لم يتوقّف، وعمليات تهريب الأسلحة إلى غزّة متواصلة، وحركة حماس تعزّز سلطتها، وجلعاد شاليط لم يعد إلى بيته. وبرأي الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، الجنرال احتياط شلومو غازيت، لم تبدّد تلك الحرب الواقع الصعب الذي كان قائمًا قبل يوم اندلاعها في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008، بل ربما أعادته إلى ما كان قبل ذلك أيضًا؛ و"بينما كنّا في ذلك الوقت نعيش على أمل أن تبادر إسرائيل إلى عمليةٍ عسكريةٍ هجومية، فإننا نواجه الآن علاماتٍ تدلّ على فشل هذه العملية وتفويت الفرصة المترتبة عليها". وكان فحوى خلاصته أن تلك الحرب في غزّة انتهت في ظروف أسوأ كثيرًا من ظروف إنهاء حرب لبنان الثانية في صيف 2006. وجاءت أبلغ ردّات الفعل في حينه من وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه أرينز، الذي شدّد بعد فترة قصيرة من انتهائها على أنه حان الوقت كي تطرح إسرائيل على نفسها السؤال: ما هي الإنجازات الحقيقية لحرب "الرصاص المصبوب"؟ فهذه الحرب لم تضع حدًا لإطلاق الصواريخ من غزّة، ولم تؤد إلى الإفراج عن الجندي شاليط. وفي الوقت نفسه، كلفت إسرائيل ثمنًا باهظًا، إذ جعلت العالم كله يثور ضدها، بسبب الدمار الكبير الذي تركته وراءها، وبسبب المعاناة الجمّة للسكان المدنيين في القطاع. ويقصد بـ"ثورة العالم" التداعيات التي ترتبت على تقرير "لجنة غولدستون"، اللجنة الأممية التي تقصّت وقائع تلك الحرب، وأدّى إلى اهتزاز صورة إسرائيل في العالم كافة، خصوصًا في العالم الغربي الذي تتباهى بالانتماء إليه. وهنا قد يكمُن الفارق بين ما كان وما هو قائم الآن، حيث ما زال الدعم لإسرائيل في الحرب من حكومات أوروبا الغربية والولايات المتحدة، بتسويغ الدفاع عن النفس، كبيرًا. فهل تتسبّب مداولات محكمة العدل الدولية في لاهاي في إحداث التحويل؟