لبنان: اليأس برنامجاً سياسياً
لكلّ بلد وشعب وأمة وقومية، أسطورة مؤسسة، ولبعضهم حدث يدفن الأسطورة تلك. لبنان، كبلد لم تكن له يوماً هوية وطنية تحظى بما يكفي من إجماع سكانه وطوائفه، اخترع لنفسه أساطير مؤسسة عديدة، طائر الفينيق أشهرها، وعرف مقتلات كثيرة، كانت تزوره على هيئة حروب أهلية (أشهرها في 1860 و1975). في كل مرة، كانت الأسطورة تغلب المقتلة أو هكذا يُشبَّه لنا. كانت الظروف السياسية ــ الاقتصادية، الداخلية والخارجية، تفرض تجاوز لبنان مآسيه عبر التاريخ، فيعاد الإعمار وتدور عجلة التجارة والاستهلاك والسياحة وبقية القطاعات الخدماتية، فيخال لبنانيون أن تأكيداً جديداً لأسطورة الطائر الصاعد من رماده أتاهم ليثبت صحة ماورائياتهم. لكن ما حصل في انفجار مرفأ بيروت قبل عام في مثل هذا اليوم، أحبط محبّي الخيال العِلمي وواجههم بما يهربون من الاعتراف به هم وأجدادهم منذ الأزل: كفاكم هراءً. طائركم العزيز غير موجود أصلاً، وإن كان موجوداً، فإنه قُتل من بين المقتولين في المرفأ. ولو لم ينفجر به الميناء، لكان قضى ربما خلال إحدى جولاته فوق سماء سورية ببرميل متفجر مصنوع من نترات الأمونيوم التي تبين أنها تصل إلى مرفأ بيروت ليتم نقلها إلى سورية ويصنع منها بشار الأسد هداياه إلى الشعب السوري. لكن مع كل ذلك، حذارِ التشكيك وسوء النوايا: حزب الله لم يكن يعلم بأمرها طبعاً. مستحيل. أصلاً أغلب الظن أنه لم يسمع باسم جورج حسواني من قبل.
انفجار مرفأ بيروت تجسيد رمزي لنهاية بلد. الانفجار شبه النووي فظيع وقلما شهد العالم مثيلاً له، لكن هذا ليس أسوأ ما فيه ولا أفظعه. الأفظع إنسانياً هي الأرواح الـ214 التي أُزهقت طبعا، والأجساد التي شُوهت والنفسيات التي دُمرت. لكن الأسوأ اجتماعياً وتاريخياً وسياسياً، يكمن في مكان آخر. كأنّ كل المصائب تركزت في نيترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ، لكي يكون الانفجار بهذه الدرجة من العنف. البلد كان ينتهي منذ فترة طويلة: منذ لم تعد هناك حاجة إقليمية ودولية لوجوده، ومنذ أنجز حزب الله وإيران احتلالهما العسكري له، ومنذ أن كرّت سبحة تصفية الشخصيات المعارضة لمثلث الأسد ــ حزب الله ــ إيران منذ 2005 من دون أن يهتم العالم بأكثر من نقل مشعل الوصاية من النظام السوري إلى حزب الله. البلد كان ينتهي منذ فترة طويلة: منذ تجنّد لبنانيون زرافات زرافات لقتل السوريين ولاحتلال بلدهم. منذ لم يعد اقتصاد لبنان قادراً على مقاومة السلاح الذي يستحيل أن تتعايش معه قطاعات الخدمات طويلاً. منذ صار الشرق وجهة وحيدة لخيارات حكّامه. البلد انتهى منذ عجز اللبنانيون عن بناء حالة سياسية جديدة تحل المواطنية بدل الطائفية، ومنذ فشلوا في إرساء مبدأ المحاسبة في امتحانات كثيرة. منذ فشلوا في صياغة كتاب تاريخ لبلدهم. منذ سار القطيع في أهزوجة "بيّ الكل" ثم عادوا وتبرّأوا مما اقترفت أيديهم في إيصال ميشال عون إلى الرئاسة. البلد ينتهي في كل يوم يغلق فيه مسرح ودار نشر وصالة سينما وصحيفة. لكل هذه الأسباب وغيرها كان البلد ينتهي، لكن كان لا بد من مشهد قياموي يعبّر عن رهبة الموت، فالموت بالتقسيط لم يكن يفي بالمطلوب.
بعد عام على موت الأسطورة اللبنانية المؤسسة، ماذا تجد في الصورة؟ طبقة وسطى في طريقها إلى الانقراض، فإما هاجرت أو انزلقت إلى أسفل. بلد أسير السلاح وحزبه. سياسيون من أسفه السفهاء منتخَبون في غالبيتهم الساحقة. جوع يتسلل إلى أكثر من نصف أفراد الشعب اللبناني. إصرار شعبي على كره السياسة وعلى محاربة فكرة الأحزاب، كل الأحزاب، فتسعد السلطة أيما سعادة، فكل بلد بحاجة لسياسيين يحكمونه، ولا مجال للفراغ في السلطة، إذاً فإنهم باقون في مناصبهم "كلهم يعني كلهم". شبابنا لا هم راغبون بأن يشتغلوا بالسياسة عبر أحزاب حتى يزيحوا العصابة، ولا هم مستعدون لعقد تحالفات لشق صفوف السلطة.
لا شيء في لبنان غير اليأس، حتى غدا اليأس ذاك برنامجاً سياسياً مكتفياً بذاته.