لبنان بلد لاجئين
يقول المثل الشعبي "البيت الضيق يساع ألف صديق"، لكن الأمور تصبح معقّدة، حين يكون اللاجئون في ضيافة الفقراء في الأرياف والضواحي، وحين يتقاتلون معاً من أجل لقمة الخبز، والماء، والدواء، والمأوى، والمدرسة... مع فقدان التماسك الاجتماعي وانهيار الدولة وخدماتها، وغياب أي خطّة لإدارة الأزمة قبل انفجارها المحتمل. تدفقات متراكمة عقوداً شملت مختلف المناطق اللبنانية. كذلك الأمر في الأردن وتركيا، وبأعداد أقل في العراق ومصر، وفي كل الدول المتجاورة. لكن الأمور في لبنان وصلت إلى نسبة الإشباع، وبات لاجئون عديدون فيه من سورييين وفلسطينين، ومن سكانه المحليين، يسعون إلى الهجرة، و"سلوك الطريق الأخطر إلى العالم" (المفوضية العليا لشؤون اللاجئيين)، حيث لقي ما لا يقل عن خمسة آلاف مهاجر غير شرعي مصرعهم في البحر الأبيض المتوسط منذ العام 2014. يعيش لبنان حالة اختلال كبير في التوازن بين مجتمعاته المستحدثة. يُستنتج ذلك من أرقام الخرائط حول توزيعات االلاجئين، وعلى ضوء الأحجام الديمغرافية، وهي قابلة للتحوّل إلى انفجار اجتماعي/ اقتصادي له تداعيات أمنية كبيرة، جرّاء التعبئة المناطقية/ الشعبوية، وترتدي أحيانا ملامح نقاشات عنصرية، وسط عجز الدولة عن وضع خريطة طريق للتعامل مع الأزمة، وعدم الاتفاق على إنشاء مخيمات على الحدود المشتركة بين لبنان وسورية. وتقول الحكومة اللبنانية إن جمعيات أهلية عامة وأحزاباً في لبنان قد وضعت الخطط لإسكان اللاجئيين وشراء أراضي لبناء مخيمات جاذبة لبعضهم من مناطق بعيدة داخل سورية. لقد ملأت التدفقات مختلف المناطق اللبنانية، وتوسعّت لتشمل مناطق عقارية في 1237 قرية. والكتلة الأكبر منها تتمركز في منطقة بعلبك الهرمل، وعكار، حيث بلغ عدد المخيمات العشوائية نحو 250 مخيماً، تؤوي حوالي 22% من عدد اللاجئين، علماً أن مجلس الوزراء اللبناني لم يوافق على إنشائها، وحيث يتركز عمل برنامج المساعدات الدولية، وإلا مات سكانها جوعاً ومرضاً، فيما مناطق أخرى مغيّبة عن برنامج المساعدات، وتضمّ آلاف النازحيين السوريين.
عبء اللاجئين على البلد الصغير كبير، ويماثل، وفق المفوض الأعلى لشؤون اللاجئيين، تدفق نحو 15 مليون لاجئ إلى فرنسا، و32 مليون لاجئ إلى روسيا، و71 مليون لاجئ إلى الولايات المتحدة. عدد النازحين في العام 2022 ناهز مليوني لاجئ، من دون وجود خطة اجتماعية/ إنسانية. برأي المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية، لبنان بات لديه "أكبر تجمّع لاجئين في التاريخ الحديث، ويوازي عددهم أكثر من نصف سكان لبنان المقيمين، البالغة مساحته 10452 كيلومتراً مربعاً، كأن يستقبل منذ العام 2011 نحو 2500 نازح يومياً، أكثر من نازح كل دقيقة. كارثة إنسانية على السوريين واللبنانيين معاً. الطرفان من دون رعاية، وبلا اهتمام، والأمور سائبة وبحاجة إلى جهود دولية للاغاثة. تمثل مساحة لبنان نحو 5,6% من مساحة سورية، فمحافظة حمص وحدها تعادل أربع مرات مساحة لبنان، وكذلك بالنسبة لمحافظة حلب البالغة نحو ضعف مساحته، كما ترتفع الكثافة السكانية إلى أكثر من 800 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، فيما تبلغ مثيلتها في سورية 115 نسمة.
يُواجه لبنان أعباء ديمغرافية/ اجتماعية في بعض مناطقه بشكل لم يعرفه في تاريخه منذ الاستقلال في 1943
يُواجه لبنان أعباء ديمغرافية/ اجتماعية في بعض مناطقه بشكل لم يعرفه في تاريخه منذ الاستقلال في 1943، خصوصاً مع خصائص اللاجئين، كونهم من الفئات الضعيفة، وبينهم أكثر من نصف مليون طفل، وهم غالباً من الأسر المشرّدة التي فقدت معيلها، والتي تعيش في ظروف قاسية إلى جانب السكان المحليين الذين صاروا أكثر فقراً، في توزيعاتٍ تتعادل فيها النسب في الكثافة، وهي الأعلى في العالم، ولم تحصل في أي دولة سابقاً. لعب لبنان دوراً بارزاً في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، والذي ينصّ على حقّ اللجوء، وعلى تعاونه مع المفوّضية العليا لشؤون اللاجئين، ومع وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من اعتبارات إنسانية، تستند إلى التوازن السياسي، وإلى نظام توافقي بين الطوائف، وقد تميز بحالة من الاستقرار النسبي، لكنه اليوم عرضة للتلاعب سياسياً، فئوياً، مذهبياً، وعلى خلفية التنازع في انتخابات رئاسة الجمهورية، وطرح اسم المرشّّح لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية المقرّب من نظام بشار الأسد في سورية. تصادم آراء سياسية، عدم تطبيق التشريعات، تعرّض المؤسّسات للشلل، استنفاد الموارد المادية والبشرية، الحدود المفتوحة، أمور عزّزت واقعاً فوضوياً، مثل عدم تنظيم سجلات اللاجئين، وصياغة سياسة سكانية واضحة المعالم. وقد جعل هذا الوضع الدول المانحة تتردّد في تقديم المساعدات لبلدٍ في وضع كارثي، وهو مهدّد بالانهيار. تحوّل لبنان إلى مخيم كبير، لا تسيطر فيه الدولة على خيمة واحدة! صورة دراماتيكية مع تراجع نسبة النمو السكاني، ومرحلة تتميز بشيخوخة السكان، وهجرة الشباب، ومنافسة مع قواه العاملة، علماً أن الأعداد الضخمة من العمّال السوريين في لبنان كان يمكن أن تشكل فرصة ثمينة لتحريك عجلة النمو في القطاعات الصناعية والزراعية، وفي قطاعات البناء، ما يحوّل عوامل أزمة اللاجئين إلى قوة عمل منتجة، وإيجابية في زيادة الطلب الاستهلاكي على السلع والخدمات، وازدياد استثمارات فئات سورية ميسورة، وتحسين القوة التنافسية، وتوسعة السوق الداخلية. وترى منظمة العمل الدولية في تقاريرها أن المساعدات الدولية ليست كافية لمواجهة ضخامة الأزمة.
كان يمكن أن تشكل الأعداد الضخمة من العمّال السوريين فرصة ثمينة لتحريك عجلة النمو في القطاعات الصناعية والزراعية
ولطالما كان لبنان مأوى اللاجئين، ملتقى المهاجرين في القرن العشرين، وشهد خمس موجات هجرة، هجرة الأرمن 1895، هجرة الأكراد 1935، هجرة الفلسطينين 1948، هجرة السوريين العام 1960 ثم 2011. تجاوزت آثار أزمة اللاجئين الحالية، وفق تقرير البنك الدولي، الوضع الإنساني، لتصيب مخاطرها المجالات كافة. يعادل تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان (مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الأمن والهجرة آن ريتشارد) تدفق 75 مليون إنسان، أو ضعف عدد سكان كندا، إلى الولايات المتحدة. وفيما يلتزم لبنان المبدأ الدولي الأساسي للحماية والعودة الطوعية والأمن للاجئين، فإنه يدفع ثمناً باهظاً، في محيط غير مستقرّ، وجرّاء انخراط حزب الله في الحرب السورية، ومن الصعب عليه الخروج منها.
ليس لبنان استثناء عبر التاريخ. تغيّرت إثر الحربين العالميتين معالم ديمغرافية كثيرة. لكن حجم الدول ومساحتها وعدد سكانها عوامل تلعب دوراً كبيراً في مسألة الاستيعاب. ويخشى لبنان من أنه صار من "الهوامل" الإقليمية والدولية (مؤتمرات الدول المانحة، اجتماع عمان الوزاري المخصّص لسورية)، وأنه أصبح أمام ازمةٍ تهدّد كيانه وصيغته، والنزوح قد يُصبح توطيناً مقنعاً، وقد جرى إهمال صحة الوضع الديمغرافي منذ العام 1932، بغياب دولة قوية تدير التنوّع، وتتحرّك في ملاقاة مرحلة إعادة إعمار سورية. العلاج سياسي، ومعيار المساواة يكمن في مكان آخر، في عدالة اختيار الأفراد حياتهم وحريتهم، وفي شروط منصفة من التعاون الاجتماعي بين شعوب المنطقة، وأن يكون هناك أمل لأولئك الموجودين في زمن سوري آخر، ومكان آخر، منعاً لسوء فهم فكرة الاجتماع اللبناني المتشابك.