لبنان .. تقاطع المصالح في التعطيل الحكومي
في خضمّ مخاض متواصل ومُثقل بصنوف الأزمات والمعاناة التي ضربت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، تمضي الأزمة اللبنانية على تفاقمها اليومي عصيةً على الحلول، مستنسخة في كل يوم جديداً يزيد من بؤس المواطنين، على الرغم من كل اللقاءات والمشاورات والاتصالات الداخلية والحراك الخارجي والنصائح والتهديد بفرض العقوبات على معرقلي تشكيل الحكومة.
في خضم هذا الوضع، لا تزال عملية تأليف الحكومة على حالها من الجمود والستاتيكو، بحيث تتقاطع فيه مصالح طرفي الأزمة الرئيسة في لبنان، الرئيس ميشال عون ومعه صهره جبران باسيل ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، على العنوان الأبرز، وهو عدم استعداد أيٍّ من طرفي الأزمة لتقديم تنازلات للطرف الآخر في المرحلة الحالية، وبالتالي الحفاظ على ستاتيكو التعطيل الحكومي، بعدما وصلت الأمور بينهما إلى حائط مسدود، وأصبح واضحاً أنه لا حكومة إلا في حال اعتذار الحريري أو استقالة عون، وأن حكومة تجمعهما أمر شبه مستحيل، إلا في حال طرأ ما ليس في الحسبان.
أصبح واضحاً أنه لا حكومة إلا في حال اعتذار الحريري أو استقالة عون
لا يبدو أن عون في وارد الموافقة على حكومة وفق شروط الحريري، ولن يكون في وارد تقديم أي تنازلاتٍ قبل أن يضمن دورا فاعلا له ولصهره جبران باسيل، سواء في الفترة المتبقية من عهده أو في حقبة الفراغ الرئاسي المتوقعة بعد انتهاء ولايته في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022. لذا يتعاطى مع تشكيل الحكومة كتفصيل بسيط في الأزمة اللبنانية، وأنّ لا مشكلة اسمها الفراغ الحكومي، ما دام أن الحكومة المستقيلة لا تزال قادرة، ويمكن تفعيلها بمعاودة اجتماعات مجلس الوزراء. لذا من المستبعد أن يتنازل للرئيس المكلف عما يعتبره حصته الشرعية، ويفضِّل ألف مرة استمرار الوضعية الحالية من الستاتيكو على تأليف حكومة يسلِّم أوراقها السلطوية فيها لغيره، وخصوصا أن التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات على معرقلي تشكيل الحكومة في لبنان لا تزال إعلامية، وحتى لو تحوّلت هذه التهديدات إلى عمليّة، فإنها لن تقدِّم ولن تؤخِّر، على اعتبار أن حسابات العهد تركّز على الموقف الأميركي، وتعوّل على إعادة ترميم الثقة مع واشنطن من أجل رفع العقوبات عن باسيل، لتلميع صورته داخلياً وتعويمه سياسياً قبل الاستحقاق الرئاسي العام المقبل. وفي هذا الإطار، يمكن إدراج رفض عون التوقيع على مشروع تعديل المرسوم الخاص بتعديل الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان و"إسرائيل"، والتي لاقت ترحيباً أميركياً ضمن إطار رسائل المساومة العونية مع واشنطن تحقيقاً للهدف السابق.
لا يريد الحريري تكرار التجارب السابقة، حيث كانت للعهد ولباسيل الكلمة الفصل في الحكومة
وبالتالي، تبقى نظرة الرئيس عون إلى الحكومة الجديدة محكومةً، في المقام الأول، بالنظرة إلى استحقاق رئاسة الجمهورية، العام المقبل، فعون لن يوافق على تشكيل حكومة لا تتناسب ورؤيته، طالما أنّها هي التي ستتولّى مهام الرئاسة في حال تعثّرت الانتخابات الرئاسية، ودخل موقع الرئاسة الأولى حقبة الفراغ. أما الحريري فلا يبدو أنه مستعجل للتأليف، في وقتٍ يزيد فيه من رأسماله السياسي داخلياً وعربياً ودولياً، من خلال تصدّيه لشروط العهد الذي يُستنزَف، ولرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. لذا يعوّل على التكليف الذي سيبقيه في موقع السلطة مع اقتراب ثلاثة استحقاقات انتخابية، البلدية (المحلية)، والنيابية والرئاسية، وما قد تفرزه هذه الانتخابات، وتحديداً النيابية، الأكثر أهمية، في مايو/ أيار 2022، من أكثرية جديدة تُعيد تشكيل الحكومة، وتمهّد لبدء عهد جديد، أو التمهيد لشراكة فاعلة في صلاحيات الرئاسة في حال دخلت البلاد في فراغ رئاسي، على غرار الذي حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان.
الحفاظ على حالة الستاتيكو التي قد تطول إلى حين إرساء الاتفاق الأميركي - الإيراني الخاص بالملف النووي الإيراني
لذا لا يريد الحريري تكرار التجارب السابقة، حيث كانت للعهد ولباسيل الكلمة الفصل في الحكومة، ويصرّ تحت عنوان الحفاظ على المبادرة الفرنسية، إضافة إلى مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، على أن تكون الحكومة من الاختصاصيين، وخالية من أي ثلث معطل، خصوصا لفريق عون وباسيل، وهو بذلك يضع العهد أمام خيارين: الفراغ حتى نهاية العهد الذي يُستنزف بشكلٍ سريعٍ وواضحٍ مع تحميله كل أسباب الفراغ وما ينتج عنه من أزمات، أو التأليف معه، وفقاً لشروط المبادرة الفرنسية القاضية بتشكيل "حكومة مهمة" من اختصاصيين غير حزبيين، لا ثلث معطلاً فيها لأي طرف.
وبالتالي، تتقاطع مصلحتا الطرفين على عدم تشكيل حكومة في المرحلة الحالية، والحفاظ على حالة الستاتيكو التي قد تطول إلى حين إرساء الاتفاق الأميركي - الإيراني الخاص بالملف النووي الإيراني، وما يرتبط به من ملفات إقليمية، إلا أن ذلك لا ينفي توقعاتٍ تقول باحتمالية تحرّك الشارع اللبناني بزخم أكبر يعيد خلط الأوراق السياسية داخلياً وخارجياً، على اعتبار أن ما يجري حالياً في الساحة الداخلية اللبنانية يصب في هذا المنحى، وسط توقعات أن يزداد الصخب السياسي والفوضى في الساحات والشوارع ضد سياسة الصمم التي تمارسها السلطة الحاكمة، ليعيد بذلك التاريخ السياسي نفسه، وهو تاريخ امتلاء الكأس وبلوغها القطرة التي ستفيض بعدها.