لبنان ... حسابات تسهّل أمر الانتخابات
من يزور لبنان هذه الأيام، لا بد من أن تبقى الحيرة رفيقته في كلّ حركة وفكرة. الأسئلة الجدّية تبقى غالباً بلا أجوبة مقنعة. كيف يتدبّر 74% من اللبنانيين، وهم المصنفون فقراء بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، أمورهم؟ كيف لم تنفجر مؤسسات الدولة الرئيسية بعد؟ كيف تصمد، في ظل انهيار شامل يشارف على بلوغ عامه الثالث، أجهزة الأمن والرعاية (وإن كانت خدماتها بائسة) والضمان الاجتماعي؟ نسب الانتحار والدمار المجتمعي وتحويلات المغتربين بالعملات الأجنبية وتحول البلد إلى مسرح كبير لمنظمات إنسانية خيرية محلية وأجنبية، ودولارات حزب الله، كلها تقترح أحرفاً أولى لأجوبة، لكنها لا تكفي لشرح كيف لا تزال تسمع في هذا البلد عن الانفجار لكنّك لا تراه ولا تعيشه. أما أكبر الألغاز العصية على الفهم فهو لا شك ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية المقررة في 15 مايو/ أيار المقبل. للأمانة، لا بد من الاعتراف بأنّ معسكر المشكّكين في حصول الانتخابات خابت توقعاته، مع أنّ حجج هؤلاء كانت مقنعة جداً:
- يستحيل تنظيم انتخابات في مثل ظروف هذا الانهيار الحاصل.
- لا يمكن انتخاب برلمان جديد سيسمّي رئيساً للجمهورية لست سنوات، وهو فاقد لتمثيل جدي للطائفة السنية.
- يصعب أن يوافق حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، "التيار الوطني الحر"، على انتخابات في موعد قريب لأنه سيكون أكبر الخاسرين فيها بعدما كان صاحب العدد الأكبر من النواب في انتخابات 2018، مع 22 نائباً من أصل 128.
- كيف تُجرى انتخابات في بلد تفتقد مؤسساته للورق الضروري لطباعة الأوراق الثبوتية وجوازات السفر؟ لا بل كيف ينظم الاقتراع ولا كهرباء كافية لتغطية متواصلة ليوم أو ليومين من أجل التصويت وفرز النتائج؟
أما هواة التحليلات الفخمة، فكان تقديرهم المرجّح لتأجيل الاستحقاق ينبع من نظرية أنها لن تحصل إلا كنتيجة لتوافق سعودي ــ إيراني ــ أميركي، وربما توقيع الاتفاق النووي. أصحاب المخيلات الواسعة هؤلاء يرفضون تصديق ما لا يخطئه عقل: لبنان لم يعد على أجندة أحد. صار مجرّد بلد عادي، خاضع بالكامل للنفوذ الإيراني وسلاحه، وقد يئس خصوم طهران من المراهنة على حلفائهم وأتباعهم اللبنانيين. أما الغربيون، فقالوها وكرّروها: تأخر الوقت لمواجهة إيران في لبنان، فحريٌّ بنا أن نتعاطى مع قوى الأمر الواقع بدل محاربتها في زمن كثرت فيه الحروب التي تفوق جميعها لبنان أهميةً.
والحال أنّ داخل لبنان، مَن يمكنه عرقلة إجراء الانتخابات، يريدها بالفعل. حزب الله واثق من اتساع رقعة أتباعه من طوائف غير شيعية، وتحديداً من المسلمين السنّة. هؤلاء بالنسبة إليه قيمتهم السياسية تعوّض التراجع الذي سيضرب حليفه المسيحي، التيار العوني. تجاوز حزب الله مرحلة الحاجة إلى المشروعية المحلية بعدما كسبها بالعونيين وبالسلاح وبفرض حسن نصر الله مرشداً أعلى للجمهورية اللبنانية وحاكماً لها. وقد صارت أعينه شاخصةً إلى نيل مشروعية مداها إقليمي خارجي، من خلال مجموعة من النواب السنّة يمكنه أن يقول من خلالهم للسعودية وللعواصم العربية الرئيسية إنهم يمثلون الطائفة الكبرى في لبنان. ولولا أنّ "كذبت نظرية المؤامرة حتى ولو صدقت" لأمكن الاقتناع بأنّ الحلفاء العرب للحريرية السياسية يتقصّدون استكمال إهداء لبنان إلى النفوذ الإيراني، مثلما فعلوا يوماً في العراق. خصوم حزب الله بدورهم يريدون الانتخابات، كلٌّ لغاية في نفسه. القوات اللبنانية ستعتبر أنّها حققت هدفها إن أصبحت القوة التمثيلية المسيحية الأولى. الجنبلاطية السياسية صارت طموحاتها تقتصر بأن تبقى على قيد الحياة وألّا يتراجع عدد نوابها عن التسعة. أما من كان يفترض أن يكون الحصان الأسود الذي يمكن أن يعفينا من الكتابة بمصطلحات طائفية مقيتة، أي معسكر انتفاضة 17 تشرين 2019، فإنّ تقييم حضوره السياسي قبل موسم الانتخابات وخلاله، يبقى مُحبطاً. كان طبيعياً جداً أن تتعدّد لوائحه وأحزابه وتياراته، لكن ليس إلى درجة ما يحصل حالياً، ليس إلى درجة أن تكون النرجسية عند بعض رموزه عبارة عن مشروع سياسي مكتفٍ بذاته.