لبنان .. حيرة بلد خام
يُقال إن "عليك أن تكون أسود أو أبيض، لكن يجب ألا تكون رمادياً"، غير أن تحديد الخيارات باثنين لا ثالث لهما لا يعني صدقية الاقتراح. "الرمادية"، شئنا أم أبينا، خيار ثالث، وسطي بالمعنى الحزبي الواسع، فيه القليل من الأسود والقليل من الأبيض. لكن ما لا يُمكن القبول والتسليم به هو مبدأ "الحيرة" المتواصلة، أي ليست مؤقتة أو مرحلية. هذه "الحيرة" وجدت مكاناً لها في لبنان في الأسابيع الأخيرة. الجميع حائر إزاء ما يحصل في البلاد، كأن أشباحا غير مرئية تدير عمليات التلاعب بسعر صرف الدولار، لا قدرة لأحدٍ على منعها أو توقيفها. تتجلّى "الحيرة" في وقوف أي مواطن أو مقيم في قلب متجر ما، ينظر بذهولٍ إلى أسعار المواد الأساسية، إذا وُجدت، من زيت وطحين وسكر. لا يملك المال اللازم لشرائها ولا القدرة على الاعتراض على الأسعار، وإذا اعترض بطريقةٍ عنيفةٍ يُرمى في الشارع أو في السجن، وإذا قرّر الاحتجاج أمام منزل أحد السياسيين أو قطع الطريق يُقال له إنك "تعرّض السلم الأهلي للخطر، وتجرّ البلاد إلى حربٍ أهلية". نعم إن حيرة هذا الشخص أمام كيس طحينٍ أصبحت مفتاحاً لحربٍ أهلية.
"الحيرة" تظهر أيضاً في سلوك من يفترض بهم قيادة البلاد، دستورياً وبحكم الأمر الواقع. تجدهم عاجزين عن فعل شيء. صوت الشارع يعلو ولا قدرة لهم على سدّ آذانهم. يحاولون تحريك الأمور عبر افتعال ضجيج سياسي يُرضي ما تبقّى من جمهور موالٍ لهم، من دون إجراء تغيير جذري يسمح بوضع حدٍّ لانهيار لبنان. "الحيرة" تبرز أيضاً في طريقة التعاطي من علٍ في مختلف المواضيع، لا يريدون مثلاً القيام بحلّ حقيقي لمسألة الكهرباء، ولا النفايات، ولا الطبابة ولا المواصلات ولا شبكات المياه ولا شيء، فقط مزيد من السمسرة والسرقات والاحتيال على القانون. تلك "الحيرة" قاتلة، تعرّض شعباً للإبادة على يد حكامه. انظروا إليهم واحداً واحداً. لن تجدوهم جياعا ولا عطاشا، ولا مذلولين على أبواب المستشفيات، ولا يساورهم القلق حيال الغد. نحنا وحدنا من يعاني، ولا أحد يفكر بنا.
الجميع حالياً يتسابق على إنقاذ ما تبقّى، ليس من أجل الناس في لبنان، بل من أجل وجودهم السلطوي فيه، وهم يعلمون أن فعلهم هذا قد يكون آخر ما يقومون به في وطنٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة. جميعنا يعلم أنه بعد وقت قليل سنصبح "بلداً خاماً"، أي مشاعاً استثمارياً لكل من يريد استغلال الجيوبوليتيك اللبناني، بقدر أهميته للإقليم. ربما، في حال لم تحصل معجزة ما في الفترة المقبلة، سنجد أنفسنا أمام شيء مختلف تماماً عن لبنان الذي عرفناه بدءاً من 1 سبتمبر/ أيلول 1920، تاريخ ولادته "كبيراً". بعد وقتٍ قليل، لن يتمكّن أي طرفٍ أو فريق لبناني من حكم أبعد من بيته، وسيقلّ نفوذ الأطراف الداخلية بقدر اتُساع نفوذ الأطراف الخارجية في البلاد.
"الحيرة" تصل إلى أقصاها هنا. ما العمل لوقف هذا كله؟ بكل بساطة: "استعادة هيبة دولتية تسمح في فرض القانون ومحاسبة كل من استخدم الناس في لبنان لغايته الخاصة". وبما أن "حاميها حراميها"، وبما أن المحاسبة غير ممكنة في لبنان، سواء باسم "الخطوط الحمر" أم لا، فإن استعجال وصولنا إلى مبدأ "البلد الخام" بات أقرب إلينا من حبل الوريد. لا أحد يريد بناء دولة يحلم بها كل شخص في لبنان.
القهر في لبنان أخو الحيرة. تجده في عيون كل إنسانٍ في كل لحظة. الجميع يدرك أن مساحة لبنان الصغيرة تسمح له باستنباط الحلول سريعاً، في حال توفرت النيات الحسنة. هذا القهر وهذه الحيرة، كما كل انفعال عاطفي، سيؤدّيان إلى انفجار ليس بالضرورة أن يكون موجّهاً، بل عشوائي وسيسرّع المسار نحو "البلد الخام".