لبنان واستثمار إرث رفيق الحريري
لم يكن إعلان رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، سعد الحريري، اعتزاله، أو تعليقه، العمل السياسي خلال الفترة الحالية في لبنان مفاجئاً، خصوصاً أن الرجل غائب عن الساحة السياسية منذ أكثر من عام، ولا يزور لبنان إلا نادراً، بعدما اختار الاستقرار في الإمارات. ولم يكن القرار غريباً في ظل العزلة التي فرضتها بعض دول الخليج على لبنان، احتجاجاً على تصريحات وزير الإعلام السابق، جورج قرداحي، بخصوص حرب اليمن. والتصريحات هذه لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، وهو ما تجلى في الورقة الخليجية التي قُدّمت إلى المسؤولين اللبنانيين لفك العزلة، وتتضمن بشكل أساسي "حصر السلاح بيد الدولة"، أي نزع سلاح حزب الله، أو على الأقل ضبطه. مع وجود هذا الشرط، والذي يمكن القول إنه مستحيل التطبيق، ومع الارتباطات المعروفة لسعد الحريري بالسعودية وغيرها من دول الخليج، كان من المنطقي أن ينأى بنفسه عن العمل السياسي في الساحة اللبنانية، ولو مؤقتاً إلى أن يتضح المشهد الإقليمي وتداعياته الاقتصادية على لبنان.
لكن قبل الحديث عن الاعتزال، أو تعليق العمل السياسي، يمكن إجراء جردة سريعة للعمل السياسي الذي قام به الحريري في السنوات الأخيرة، والذي لم يكن يحمل أي حنكة كان من المفترض أن يتحلى بها السياسي. وإذا كان الحريري اليوم يردّ أسباب قراره إلى مصادرة أطراف أخرى البلد، في إشارة مضمرة إلى حزب الله، ربما عليه أن يتذكر أنه كان وراء التسليم المطلق للبلد إلى الحزب بعدما أبرم صفقة إيصال ميشال عون إلى سدّة الرئاسة اللبنانية، الأمر الذي مكّن الأخير وحليفه حزب الله من الإمساك بمفاصل البلد، حتى في ظل معارضات متنوعة من أطراف تمثل التنوع الطائفي والمذهبي في البلد.
وحتى قبل ذلك، لا يمكن النظر إلى فعل سياسي حقيقي قام به الحريري باعتباره رجل سياسة، وهو الذي جيء به على غفلة لملء الفراغ الذي خلّفه رحيل والده رفيق الحريري، وبالتالي لم يكن له أي خبرة في العمل بالشأن العام، وهو عملياً لم يراكم الكثير خلال السنوات السبع عشرة التي أعقبت اغتيال والده، بل كان رهينة قرارات تؤخذ من الرياض بشكل أساسي، وخصوصاً في ظل الدعم الذي كانت تقدمه السعودية للرجل. واللافت أنه تحوّل بالفعل إلى رهينة في عام 2017، حين احتجزه في الرياض ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وأُجبر على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية. ولم يتم فك هذا الاحتجاز إلا بعد تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. حينها، كان الأجدى بالحريري أن يعلن اعتزاله العمل السياسي، والخروج بالحد الأدنى من ماء الوجه. لكن حتى البيان الأخير حول الاعتزال، هناك من يرى أنه غير نابع من رغبة الحريري، بل جاء تلبية لطلبات خليجية، إماراتية تحديداً، مقابل تسهيلات استثمارية واقتصادية في الإمارات.
ولكن بغض النظر عن الخلفيات ومن وراء القرار وتوقيته، ربما الأجدى اليوم النظر إلى التداعيات المحتملة على الداخل اللبناني سياسياً، ليس من منطلق أن الحريري كان رجل سياسة بامتياز، بل من فكرة أنه يمثل شريحة عريضة من اللبنانيين، بحكم التقسيمة الطائفية للبلاد وبفعل إرث والده. هذه الشريحة اليوم، والتي هي الطائفة السنية أو غالبيتها، باتت خارج المشهد السياسي، وخصوصاً أن ممثليها الآخرين لا يتمتعون بالشعبية الكافية لطرح أنفسهم زعماء للطائفة، ولا سيما أن لمعظمهم ارتباطات داخلية وخارجية لا تخوّل لهم لعب دور كهذا.
اللعب اليوم هو على استثمار إرث رفيق الحريري، وهو ما بدا مع الظهور المفاجئ لنجله بهاء لمحاولة ملء الفراغ على الساحة السنية، مستفيداً من رصيد والده الشعبي الذي ما زال موجوداً. لكن من غير الواضح إلى اليوم من يقف خلف هذا الاستثمار الجديد.