لبنان وعبثية التسوية السطحية لأزمة متجذّرة
يُظهر المشهد السياسي في لبنان، والذي يمكن وصفه بأنه بالغ التعقيد، أن عبثية التسوية السطحية التي يسعى إلى تطبيقها زعماء الطوائف والكتل السياسية في لبنان لن تجد طريقها إلى التطبيق في ظل الأزمة المتجذّرة، والانهيار الذي تشهده مؤسسات الدولة، والذي ينعكس على كل القطاعات، وينذر بأخطار لا أحد يستطيع تحمّل نتائجها إذا بقيت الأمور على حالها.
ما يدور حالياً من مساع لمحاولة التوصّل إلى حل لأزمة تشكيل الحكومة، طرفاها الرئيس المكلف سعد الحريري من جهة والرئيس ميشال عون ومن خلفه صهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من جهة أخرى، وما نتج عن ذلك من 14 لقاء منذ تكليف الحريري بتشكيل الحكومة في 22 أكتوبر/ تشرين الأول، لم يستطع فيها الطرفان الاتفاق على الحكومة من حيث العدد وتوزيع الحقائب، يؤكّد هذا كله أن الخلاف لا يقتصر على تسميات الحكومة وشكلها، وإنما يمتد إلى حصص كل حزبٍ وطائفة، بل ويتعدّى الأمر هذه الحصص إلى ملف من يُمسك بوزاراتٍ معينةٍ ترتبط بملفاتٍ أمنية وقضائية، خصوصاً وأن الفترة الماضية كانت حافلةً بمسألة الاستجواب وتوجيه الاتهام لمسؤولين لبنانيين عديدين على خلفية انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب الماضي، فالخلاف على تشكيل الحكومة لم يعد يقتصر على الأسماء والحقائب والثلث المعطل، بل بدأ يتخذ مساراً جديداً يتعلّق بالنظام السياسي والطائفي اللبناني ككل، الأمر الذي يستتبع معه تسوياتٍ تتخطّى التسويات المرحلية والجزئية التي اعتاد عليها اللبنانيون، إلى تسوياتٍ كاملةٍ وجذريةٍ تأخذ بالاعتبار المطالب الداخلية والخارجية، من دون أن يعني ذلك أن تكون هذه التسوية لصالح الطبقة الحاكمة الفاسدة على حساب مطالب الشعب.
الخطوة المقبلة يجب أن تكون باتجاه إسقاط العهد وإسقاط مجلس النواب وإسقاط الكتل النيابية الكبيرة والتوجه إلى انتخاباتٍ نيابيةٍ جديدة لإعادة إنتاج سلطة سياسية جديدة
يبدو جلياً، بعد أربعة أشهر من استقالة حكومة حسّان دياب، أن تعثّر الفرقاء اللبنانيين، في ظل الانقسامين، الأفقي والعمودي، في الوصول إلى اتفاق ينهي الأزمة اللبنانية، سيحتّم إطلاق دينامية دبلوماسيةٍ غربيةٍ أكثر قوة، مسنودة بقوة دفع دولية تهدف إلى تسويةٍ تضمن عدم سقوط الدولة اللبنانية من جديد في محاصصاتٍ طائفيةٍ وإقليمية، ومن المتوقع أن تنطلق هذه الدينامية بشكل أكثر جدّيةً وقوةً، بعد أن تنتهي الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس بايدن من بلورة هيكليتها السياسية، الداخلية والخارجية. فحادثة انفجار المرفأ يجب ألا تذهب سدى، فالوقت قد حان للمحاسبة والإسقاط، ومن ثم ولادة لبنان الجديد، فسقوط حكومة حسّان دياب يمكن اعتباره خطوة مهمّة، لكنها غير كافية، فالخطوة المقبلة يجب أن تكون باتجاه إسقاط العهد وإسقاط مجلس النواب وإسقاط الكتل النيابية الكبيرة والتوجه إلى انتخاباتٍ نيابيةٍ جديدة لإعادة إنتاج سلطة سياسية جديدة في البلاد، بعيداً عن الطبقة السياسية الفاسدة، وبعيداً عن تجاذبات المحاور الإقليمية ذات الأبعاد المذهبية والطائفية، وإلا فإن البلاد ذاهبة باتجاه الانفجار الذي بات الجميع يلمح له، والذي لن يبقِي ولن يذر، ولن يكون لأي فريق لبناني القدرة على التحكّم بضوابطه وحجمه، سيّما وأنّ الأدوات التي تملكها الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، منذ اتفاق الطائف عام 1989، والتي أحكمت من خلالها قبضتها على السلطة، سيبقى لها تأثير على شريحةٍ لا بأس بها من اللبنانيين، وستحاول هذه الطبقة استخدام هذه الأدوات من جديد، لفرض تسوياتٍ لا تقلّ ضرراً على الدولة والمجتمع من التسويات السابقة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه.
أي تسويةٍ لا تقوم على حكومة تكنوقراط تعمل على إجراء انتخاباتٍ نيابية مبكرة، ومحاكمة الفاسدين والسياسيين، واستعادة الأموال المنهوبة، ستبقى عبثية
صيغة إدارة الحكم في لبنان، طوال العقود الثلاثة الماضية، وتنظيم توزيع السلطات على أساس طائفي تتحكّم فيها المصالح الفردية لأشخاصٍ وأحزابٍ وكتل، أظهرت حدودها ولا يمكن استمرارها. لذا سيكون من المخاطرة الرهان على استفاقة الحسّ الوطني، وتغليب المصلحة الجماعية لدى هذه الطبقة التي فقدت كل هيبتها، وفقدت ثقة الشارع بها، فلا يمكن لطبقةٍ سياسيةٍ متّهمة بالفشل والفساد والارتهان للخارج أن تسهم بتركيب سلطة كفوءة وشفافة، قادرة على المحاسبة ومواكبة طموحات اللبنانيين. لذا لا بدّ وأن يكون الانفجار نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ لبنان، يقود إلى تغيير حقيقي في طريقة حكم لبنان، وكسر ثقافة الحصانة التي حمت السياسيين من المحاسبة ثلاثة عقود.
وبالتالي، أي تسوية انتقالية بحكومة جديدة تقوم على المحاصصة والتوازنات الحزبية والبرلمانية تضمن للفريق الحاكم استمرار نفوذه وسطوته، وتشكّل له مخرجاً من أزمته وانسداد أفقه، يجب أن تُرفض في مهدها، لأنّ أي تسويةٍ من هذا النوع ستكون لصالح هذا الفريق، ومحاولة لإنقاذه من سقوط مدوٍّ وحتمي، سيّما أنّ قدرته على الخروج من الأزمة توازي صفراً، فأي تسويةٍ لا تقوم على حكومة تكنوقراط تعمل على إجراء انتخاباتٍ نيابية مبكرة، ومحاكمة الفاسدين والسياسيين، واستعادة الأموال المنهوبة، ستبقى عبثية، وستقود إلى أزماتٍ أخرى أكبر في المستقبل.