"لبننة" المشهد الفلسطيني مع استقالة حكومة اشتيّة
وضع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، 26 فبراير/ شباط الماضي، استقالته تحت تصرّف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لما تحتاجه المرحلة المقبلة وتحدّياتها من ترتيبات حكومية وسياسية جديدة تأخذ بالاعتبار الواقع المستجد في قطاع غزّة، وفق ما قال. ولا يستطيع المتابع للشأن الفلسطيني ومحورية الحرب في غزّة إلا التساؤل بشأن زمنية تقديم هذه الاستقالة في ظلّ حربٍ ما زالت قائمة على قطاع غزّة، رغم توقّعاتٍ أن الهدنة باتت قاب قوسيْن.
تشابكات وتعقيدات كثيرة تنتظر المرحلة المقبلة للمنطقة كما لفلسطين وقضيّتها، ما يرسم غبشاً في الرؤية، ويستبعد أي طرح للتوصل إلى حلّ جديّ للحرب. هذا ما يجعل مصير الحكومة المنتظرة ولادتها قاتماً، في ظلّ انقسام عمودي بين ما تطرحه إسرائيل الرافضة أي دور لحركة حماس والجهود الروسية المدعومة إيرانيّاً لإشراك حركتي حماس والجهاد الإسلامي في أي حكومة مقبلة، وفي ظلّ الحالة "الانتظارية" التي يعيشها العالم لما قد تفرزه صناديق الاقتراع الأميركية من رئيس جديد للبلاد في نهاية العام.
يضع بعضهم خطوة استقالة حكومة اشتية في سياقها، ولا سيّما أن لها في إدارة الشأن الفلسطيني حوالي خمس سنوات، حيث واجهت مراحل صعبة ومعقّدة، جديدها أخيرا الحرب المستمرّة في قطاع غزّة، فالمطلوب اليوم، بحسب رأيهم، تشكيل حكومة جديدة تواكب مرحلة ما بعد الحرب، كما عليها أن تحاكي التغييرات الحاصلة على صعيد النظام العالمي. ولكن أمام المشهدية الحالية لم يعد السؤال مرتبطاً بما على الحكومة المقبلة القيام به، بل هل ستكون للفلسطينيين حكومة؟ وهل تمّت لبننة القضية الفلسطينية من بوابة حكومة تصريف أعمال إلى أجل غير مسمّى في ظل تدخلات دولية وعدم الوضوح لأي معالم للمستقبل المرسوم للمنطقة؟
تسيّر حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة أعمال لبنان بالقدر الذي يسمح لها الدستور به، وسط انقساماتٍ داخليةٍ بين من يعتبر قراراتها شرعية ومن يجد في ميقاتي مغتصباً للسلطة في ظل غياب رئيس للبلاد. صحيحٌ أن الرئيس الفلسطيني موجود، على عكس ما هو الواقع في لبنان، لكنّ المسار والمصير مشتركان بينهما، فإضافة إلى الانقسام الداخلي في الرؤية الاستراتيجية بين حزب الله (وما يمثله) وقوى المعارضة له وحيثياتها، هناك التدخل الإيراني الواضح المعالم وتراجع دور الخليج العربي باستثناء لجنة خماسية ذات اجتماعات فولكلورية تنتظر هي أيضاً حلول السماء للتوافق على اسم الرئيس العتيد.
المطلوب من الحكومة الفلسطينية الجديدة أن تكون قادرة على مواجهة تبعات حرب الإبادة الجماعية في غزّة
قد يراه بعضُهم التوقيت المناسب للاستقالة، ولا سيما أن حكومة اشتية باتت عاجزة عن تقديم شيء جديد للخروج لمحاكاة المرحلة المقبلة من الحرب في غزّة، فالحرب ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وعلى الشارع الفلسطيني أن يكون مستعدّاً لليوم التالي، بعد وقف الأعمال العسكرية نهائيّاً، لهذا فإن تشكيل حكومة مواجهة هو المطلوب. ويرى آخرون أن هناك تسرّعاً نوعا ما في أخذ قرار الاستقالة وإحالتها إلى حكومة تصريف الأعمال، في ظلّ "الطحشة" الروسية الواضحة المعالم على القضية الفلسطينية، فعند تشكيل حكومة اشتية كانت روسيا منهمكة في الوحول السورية والليبية، ولم تكن القيادة الروسية، إلى جانب الحزب الحاكم في الصين، قد اتخذا القرار في إعادة هيكلة النظام العالمي القائم، عبر فرض نموذج جديد من التدخّلات في الشأن العالمي. أما اليوم، فالأمور تغيّرت وشبكة التحالفات تبدّلت، ففي وقتٍ يدعو فيه رئيس الوزراء نتنياهو في خطته لليوم التالي الذي سيقصي نهائياً حركات المقاومة الفلسطينية من المشهدية السياسية، تجد أن للقيادة الروسية موقفاً مغايراً ومختلفاً.
تعتبر القيادة الروسية أن تشكيل حكومة جديدة بعيدة عن الوصاية الغربية مدخلاً لرسم خريطة طريق جديدة، هذا ما يفسّر الدعوة التي أطلقتها وزارة الخارجية الروسية إلى الفصائل الفلسطينية للاجتماع في موسكو لبتّ مرحلة ما بعد الحرب، وقد بدأت هذه المحادثات التي تنصبّ حول سيل إنهاء الحرب في غزّة، وإنهاء الانقسام وبلوغ الشراكة السياسية الفلسطينية على برنامج لمنظمة التحرير وتشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية.
مهما اختلفت التحليلات حول توقيت الاستقالة، إلا أن المطلوب من الحكومة الجديدة أن تكون قادرة على مواجهة تبعات حرب الإبادة الجماعية في غزّة، إلى جانب ضمان الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، ووضع خطط لإعادة إعماره.
مرّ أكثر من عامين على الفراغ الرئاسي في لبنان، ولا تزال حكومة تصريف الأعمال تصرّف الأعمال مع فتاوى تجيز لها إصدار المراسيم والقوانين، في ظلّ مجلس نيابي فقد صفة التشريع إلا للضرورة، ومعطّل ومقفل أبوابه في انتظار انتهاء الصراع في قطاع غزّة. إذ يبدو أن الحرب ستطول في غزّة، ومنتظرو نهايتها لرسم السياسات سينتظرون طويلاً، بما فيهم القوى الداخلية الفلسطينية واللاعبون المؤثرون في فلسطين لتقديم شكل الحكومة المزمع تشكيلها ووضع جدول أعمال لها. لهذا وضعت فلسطين كما لبنان على لائحة الانتظار إلى أن تأتي الحلول.