لعبة الأسماء في خواطر الصباح
أصدر المفكِّر المغربي، عبد الله العروي، منذ سنوات أربعة أجزاء من اليوميات التي دَوَّنها ابتداءً من سنة 1967 إلى سنة 2007. وهي تضع أمام المهتمين بمشروعه في الدفاع عن الحداثة والفكر التاريخي ما يُسْعِف بتوضيح بعض خياراته ومواقفه، وتكشف عن جوانب من مساره الفكري وتجربته السياسية. يُغَطِّي الجزء الأول من خواطر الصباح سنوات 1967- 1973 المُواكِبة لأعماله الأولى، حيث تحضُر الأسئلة التاريخية والسياسية الكبرى التي عاصر، هزيمة 67 وفشل المشروع القومي الناصري، كما تحضر بعض إشكالات القضية الفلسطينية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن بعض مقاطع هذه اليوميات يمكن أن تُصَنَّف ضمن أدبيات نقد الهزيمة العربية، مع حِدَّة واضحةٍ في نقد الفكر السياسي العربي المواكب للهزيمة وتبعاتها.
تُعَيِّن الخواطر في مجملها الاختيارات الفكرية الكبرى التي رسم الباحث لحياته في مجال الفكر، كما تُحَدِّد مواقفه من الأحداث التي عاصر، حيث كان يبدي عناية قوية بكل ما يجرى في مجتمعه، وفي المحيطين، العربي والعالمي. وقد اختار ممارسة دور المثقف الذي يتجّه إلى تركيب التصورات الأقرب في نظره إلى منطق العمل السياسي التاريخي، لحظات تأمله في كل ما كان يجري أمامه. ونتصوَّر أن يومياته تفيد المهتمين بفكره وبالفكر المغربي والعربي المعاصر. وقد وجّه العروي فيها رسائل متعدّدة، إلى أشخاص وأحداث وأزمنة توارت، من دون أن تتوارى كل أوجُهها وعلاماتها، كما قام فيها بتوثيق بعض معطيات حياته الخاصة بحميميةٍ واختزال شديديْن وإشارات دالة.
نوجِّه عنايتنا، ونحن نعيد قراءة هذه الخواطر، إلى ما أطلقنا عليه لعبة الأسماء، فالأسماء تحضر بكثافة في اليوميات، أسماء الأشخاص وأسماء الظواهر والأحداث، تحضر الأسماء في الجمل، كما تحضر في الفقرات، وقد تحضر لتختفي في عَطْفَةِ جملةٍ عارضةٍ، وهي تحضُر لتؤدي وظائف متعدِّدة. وقد أحصيت في النص من أسماء الأشخاص ما يتعدّى المائة، أسماء رجالات الحركة الوطنية المغربية ورموزها، أسماء المثقفين المغاربة والعرب المجايلين له، وقد وردت بكثافة لتعكس مستويات ارتباطه بالمجال السياسي الثقافي المغربي والعربي. كما تحضر أسماء المستشرقين والباحثين الأوروبيين والجامعيين الأميركيين أو الوافدين إلى أميركا. كما نجد أسماء الباحثين الذين ارتبط بهم في ملتقيات فكرية أو ناقش بعض أعمالهم، أو الباحثين الذين ناقشوا أو انتقدوا بعض أعماله. وفي مختلف سياقات ذكره الأسماء، نكتشف مواقف ومعطيات وتصوّرات، تتصل بعوالم الرجل الفكرية واهتماماته الإنسانية المتشابكة. ويبدو لي أن لعبة الأسماء في خواطره منحتها أبعاداً مهمة ومركّبة، وعندما نختار عينة صغيرة منها للاقتراب أكثر من النص، ومن لعبة الاستحضار المكثف للأسماء داخله، نكتشف أننا أمام قضايا متعدّدة.
يحضر اسم علال الفاسي بصورة متواترة، يحضر صاحب مشروع إصلاحي في الثقافة المغربية المعاصرة
يحضر اسم علال الفاسي بصورة متواترة، يحضر صاحب مشروع إصلاحي في الثقافة المغربية المعاصرة. لكن الصورة التي تتخلل مستويات حضوره المتعدّد تمنح الكاتب ليس فقط إعلان تقديره الرجل، بل بناء ما يحدّد مستويات هذا التقدير ودرجاته، فعندما يتحدّث مثلاً عن تنوع قراءات النخب العصرية في المغرب يضعه مقابل عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الشرقاوي، ويضع بجانبه إبراهيم الكتاني وأحمد بناني، فيفهم من التقابل ما يفيد اختلاف المرجعية الفكرية للأسماء والرموز، وعندما ينتقد جوانب من ممارسات الحركة الوطنية في علاقتها بنظام الحكم في المغرب، يحضر اسم علال أيضاً في سياق مختلف عن الأول والثاني.. التواتر في الحضور يواكب أحداثاً ومعطيات مختلفة، فيتحوّل الاسم إلى أسماء، ولعله يتحوّل إلى حركاتٍ وأفعال مرتبطة بإشكالات سياسية أو ثقافية أو تاريخية، تتجاوز الأسماء المفردة لتطال الأحزاب والاختيارات والمواقف.
لنأخذ مثالاً آخر من الأسماء، وليكن هذه المرّة اسم الباحث الفرنسي الماركسي، جورج لابيكا، الذي كتب دراسة مشهورة عن كتاب العروي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" بعد صدوره بالفرنسية سنة 1967. وتستدعي مناسبة الذكر هنا أسماء باحثين آخرين يرتبطون بالفكر الماركسي والأحزاب الشيوعية الغربية والعربية، حيث يرد اسما روني كاليسو وأبراهام السرفاتي وغيرهما، فهؤلاء في نظره يصطفّون في طريق واحد، لأن منظورهم الماركسي للتاريخ دوغمائي، وهم لا يفهمون أن الأبحاث والدراسات التي تستعيد آليات التحليل الماركسية التقليدية، من دون عناية بالمستجدّات المنهجية والفكرية، سواء في مجال تطور الفكر الماركسي ذاته أو في مستوى تطور الفكر المعاصر، تسقط في نوع من التقليد. تحضر الأسماء هنا وتَتَعَدَّد لِتُرَكِّب مواقف مُحَدَّدة، فتتحول إلى علاماتٍ في سياقٍ يتجاوز التسميات، ليفكّر في الإشكالات النظرية والتاريخية المرتبطة بمجال اهتمامه وتفكيره.
تتيح لنا يوميات العروي معرفة مواقفه من الأوضاع الداخلية في المغرب، وهي مواقف يمكن أن تكون مفيدة
تحضر الأسماء في بعض الأحيان لتحجب المواقف، لا لتكشفها أو توضحها، أو تنتقد بعض خياراتها. وهناك أسماء أخرى تَرِد بتوسّط معطيات أخرى، حيث يكتفي صاحب اليوميات بذكر وظائف أو مهام محدّدة كاشفة عن بعض الأدوار أو المواقف، فيحضر الشخص من دون حضور اسمه. كما أن هناك أشخاصاً يحضرون بتوسّط أسماء أخرى، فعندما يحضر مثلاً اسم الباحث الاجتماعي التونسي، عبد الباقي الهرماسي، مصحوباً بصديقتيه الأولى والثانية في مقاطع متعدّدة ومتلاحقة في اليوميات، فإن النص يتحدث عن الصديقات بلغة واصفة، إنه يتحدّث عن الصديقات لا عن الصديق، فالاسم الأول يحضر لا بحضوره، بل بحضور من برفقته من صديقاته الحسناوات.
تتيح لنا يوميات العروي معرفة مواقفه من الأوضاع الداخلية في المغرب، وهي مواقف يمكن أن تكون مفيدة، ليس فقط بالنسبة لحقبة تدوين اليوميات، بل إنها تكتسي راهنيةً تدلّ على صعوبات التحوّل المعاق في بلادنا خلال العقود الخمسة الماضية. ويمكن أن نقرأ بياضاتها بنصوص المؤلف الأخرى. وإذا كانت يوميات خواطر الصباح تقرِّبُنا من جوانب مسيرته الفكرية، فإن مؤلفاته الأخرى التي لم تنقطع منذ نهاية الستينيات مستوعبة العديد من الأعمال الفكرية والترجمات المشدودة إلى أسئلة التأخُّر التاريخي العربي، فإننا نعثر فيها أيضاً على روح الخواطر ولغتها وأسئلتها وأسمائها وأحداثها. ففي الخواطر نقد قوي للحركة الوطنية، ونقد أقوى للمخزن، ونقد للماركسية الدوغمائية، ونقد للسلفية والتقليد، وفيها أيضاً، نقد للحركات اليسارية الجديدة (مجموعة أنفاس)، وفيها نقد للفكر والسياسة كما تمظهرا في مشاريع محددة في الفكر والمجتمع المغربي المعاصر خلال حِقْبَة تدوينها.