لقاح كورونا: الدين والدولة مجدداً
كأنّ قدر العلاقة بين الدولة العلمانية والدين وممثليه وأتباعه أن تبقى ملتبسة. حتى حيث تم العثور على صيغة ترضي الطرفين، يطرأ من وقت إلى آخر ما يعيد التذكير بتعقيدات المواءمة ما بين سمو الإطار المدني الوضعي على ما عداه في ما يتعلق بالفضاء العام من جهة، وحقيقة أن طيفاً واسعاً من المجتمع يتمسّك بالتدين، إيماناً وطقوساً من جهة ثانية. صعوبة استدامة الوئام بين الإطارين نابعة أساساً من تداخل الحيزين العام، وهو من اختصاص الدولة وقوانينها الوضعية، والخاص، حيث يتمدد الدين عند المؤمنين بقدر ما هم يتيحون له التمدد. وكأن الحدود الفاصلة بين الفضاءين أوهن من بيت العنكبوت. وكأن السجال التاريخي بين نظريتي "حبيبتي الدولة"، في مقابل "الدولة شر مطلق"، وقوده لا تنضب.
قريباً جداً، سيكون على الدول أن تستعد لاشتباك حتمي مع مؤمنين كثر من مختلف الديانات والطوائف والعقائد غير الدينية، يرفضون مسبقاً تلقي لقاح كورونا لخليط من الأسباب: عقائدية دينية، وفتاوى وإن لم تكن تنتمي إلى المؤسسات الدينية "الماينستريم"، ونظريات مؤامرة مريضة، وأحياناً تكون علمانية للغاية تنهل من الشعبوية من دون أن تشبع. وتكتمل النكبة عندما يتقيأ رجل دين نظريات مؤامرة بغطاء علمي لتبرير رفض اللقاح، مثلما فعل كاهن في لبنان قبل أيام أمام حشد من ناسه في كنيسة، من دون أن يكون هناك دولة في بلد الطوائف لكي تعتقل الرجل وتسجنه بقدر ما يستحق تحريضه من عقوبة. وليس بعيداً عن جنون اللقاح، في فرنسا، كل يوم أحد تشهد عشرات المدن والبلدات والقرى تجمعات لمواطنين يلتقون لتجديد قناعتهم بأن الحجر الصحي المفروض في البلد المسمى "الابن الأصغر للكنيسة الكاثوليكية"، ليس سوى مؤامرة لمحاصرة القداديس ولإغلاق الكنائس. رغم ذلك، لا تزال الحكومة الفرنسية مترددة حيال فرض إلزامية اللقاح، ولن تتخذ قرارها قبل اعتماده طبياً بشكل رسمي على ما أفاد به المتحدث باسمها غابرييل أتال قبل أيام.
كان يمكن لتلقي أي لقاح من عدمه، أن يكون شأناً شخصياً، لكن ليس هذا هو الحال مع وباء معدٍ مثل كورونا. يمكن لمدمني نظريات المواد الكيميائية العجيبة المدسوسة في العقار الموعود، و"قوى الشر" التي اخترعته وجينات الخنازير داخل اللقاح، والأمراض الموضوعة في تركيبته (!!!)، ولرافضي دخول أي مادة حيوية إلى أجسادهم حفاظاً على نقائها وطهارتها، يمكن لهؤلاء، متدينين كانوا أو ملحدين أو متيمين بمحاربة المؤامرة العالمية، أن يقرروا الانتحار والموت بمرضٍ صار له دواء يقي من شره. لكن ما لا يحق لهم فعله، هو تحميل تبعات قناعاتهم وخرافاتهم لغيرهم، بما أن كورونا أخطر ما فيه هو سرعة انتقاله وانسيابية التقاط عدواه. هنا، يصبح الحيّز الخاص، الممثَّل بالحرية الشخصية في رفض تلقي العلاج الوقائي، اعتداء على الفضاء العام من خلال تعريض الآخرين للإصابة بالمرض وفاء لماورائيات.
لجماعة مَن يمسكون بالعلم من ذيله أن ينبشوا آراء تدّعي النطق باسم العلم والطب البديل وشعبويات يمينية ويسارية تحذّر من اللقاح عموماً، أي لقاح، انطلاقاً مما يُقال إنه يشكل خطراً على الأطفال، وإنه ليس إلا تكريساً لتبعية حيال شركات الأدوية والإمبرياليات. لهم ممارسة هوايتهم تلك حتى الثمالة، لكن هؤلاء وغيرهم لم يقترحوا بديلاً عن هذا الطب الذي نعرفه، وندرك حقاً أنه تم استخدامه لغايات إجرامية أحياناً. لكن طالما أن لا بديل عن هذا الطب بالذات، وعن اللقاحات التي ينتجها رجال ونساء هذا الطب، فسيكون على الدولة، أي دولة، أن تقمع ديكتاتورية الخرافة، وأن تفرض إلزامية اللقاح ذلك لأن خطر الفيروسات أكبر من رعب السلاح المنفلت. وإن كان التعريف الأول للدولة أنها تحتكر وسائل "العنف الشرعي" في المجتمع، فإن محاربة الفيروس من خلال إلزامية اللقاح تصبح أسمى من مراعاة خواطر بعض رجال الدين وأقلية من مؤمنين، وآخرين متيَّمين بمطاردة الساحرات والمؤامرات.