لماذا كل هذا "القلق الأردني"؟
على الرغم من أنّ تداعيات وباء كورونا تعتبر مسألة عالمية وجبرية، وليست حالة أردنية خاصة ولا اختيارية، وأن التنافس بين الدول اليوم لعله يكمن في محاولة الحدّ من حجم الخسائر البشرية والصحية والاقتصادية، ولا توجد نظرية واحدة يمكن القول إنّها أثبتت فعاليتها، إلا أنّ تداعيات الجائحة أردنياً تتجاوز الحالتين، الاقتصادية والصحيّة، إلى المزاج العام الذي وصل إلى مرحلة ملحوظة وصادمة من القلق وعدم اليقين تجاه المستقبل.
من الطبيعي أن أسباب القلق الأردني مرتبطة أصلاً بالظروف الاقتصادية السيئة التي تعاني منها شريحة واسعة من المجتمع، وفي ظل ارتفاع تصاعدي ملموس على معدلات الفقر والبطالة في البلاد، منذ بدء الجائحة. ولكن المزاج العام يتجاوز هذه الأبعاد إلى الجانب السياسي الذي من الواضح أنّه أصبح مسكوناً بحالةٍ من أزمة ثقةٍ متجذّرة وغيابٍ للبوصلة في علاقة الحكومات بالمواطنين بالقوى السياسية عموماً.
أطلق الملك عبد الله الثاني، غداة الانتخابات النيابية التي انتظمت في نوفمبر الماضي، دعوة إلى الإصلاح وإلى مراجعة التشريعات السياسية
تمثّلت القناعة الرسمية، خلال الأعوام الأخيرة، بأولوية المشكلات الاقتصادية والمالية بوصفها تشكّل جوهر الأزمة الداخلية، وكان العمل جارياً على اعتبار مشكلة البطالة الملف رقم 1 على طاولات المسؤولين، وبمحاولات جاهدة لرفع معدلات النمو الاقتصادي، تأسيساً على فرضية أنّ تحسين الظروف الاقتصادية والمالية سيؤدّي إلى تحسين المزاج الشعبي العام، وإغلاق الباب أمام الخطابات الراديكالية أو "العدمية" (بوصف المسؤولين) التي تحاول توظيف الظروف الاقتصادية لأهداف سياسية.
جرت الرياح بما لا تشتهي سفينة الدولة، وعزّزت الجائحة من الأزمة الاقتصادية والمالية، ورفعت منسوب القلق، ووسّعت من مساحة المطالبات بالإصلاح، ما دفع مرّة أخرى إلى العودة إلى الحديث عن الإصلاح السياسي.
وكان الملك عبدالله الثاني قد التقط هذا المناخ العام، وأطلق، غداة الانتخابات النيابية التي انتظمت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، دعوة إلى الإصلاح وإلى مراجعة التشريعات السياسية، في سياق احتفاليات المئوية، إلا أنّ حالة الاحتقان في الشارع ارتفعت، خلال الأسابيع الماضية، وانطلقت دعوات إلى إحياء ذكرى "24 آذار" من جديد، وازدهرت المعارضة الخارجية التي استقطبت مئات آلاف من المشاهدين كظاهرة سياسية وإعلامية غير مسبوقة.
المناخ القلق والمتوتر يأتي في ظل الاستعداد لإطلاق الحوار الرسمي لتعديل التشريعات السياسية لتطوير العملية الديمقراطية
انتهت احتجاجات إحياء "24 آذار" (بمناسبة مرور عقد على حركة أخذت الاسم نفسه في ذروة الربيع العربي، وشهدت حضوراً كبيراً للآلاف على دوار الداخلية في العاصمة عمّان) بحضور شعبي محدود، ربما بسبب ظروف جائحة كورونا، أو أنّ الشرط الموضوعي ليس متوفراً كما هي الحال فيما سبق، أو بسبب الضغوط الأمنية والحضور المكثّف للأمن والتلويح بالعقوبات ضد من يحضرون. بالنتيجة، تمّ اعتقال عشرات الناشطين وتحويلهم إلى محكمة أمن الدولة بتهمة الإقلال بالراحة العامة، وهي "رسالة سياسية" ستؤدي إلى رفع وتيرة الأزمة الداخلية، في سياق أزمة مزدوجة (تتضافر فيها حالة عدم الثقة مع أوضاع اقتصادية ومالية سيئة) لا تخفى على من يُحسنون أبجديات القراءة السياسية؛ حتى وإن كان ذلك بذريعة قانون الدفاع والوضع الوبائي وحماية هيبة الدولة أو تطبيق القانون، لأنّ المفارقة الأخرى تتمثّل بانعدام الظروف والشروط الصحية الأساسية للمعتقلين، وهم جميعاً من النشطاء السياسيين.
يقودنا هذا إلى جوهر المعضلة الرئيسية الحالية، أنّ هذا المناخ القلق والمتوتر يأتي في ظل الاستعداد لإطلاق الحوار الرسمي لتعديل التشريعات السياسية لتطوير العملية الديمقراطية! وكأنّنا فقدنا البوصلة تماماً: ماذا نريد فعلاً؟ لأنّ الرسائل التي تصدر عن مؤسسات الدولة تبدو متناقضة أو في اتجاهات متضاربة!
من الضروري أن نعود إلى العناوين الرئيسية، قبل الغرق في التفاصيل الصغيرة، والمقصود ترسيم الحكومة برنامجها السياسي المقبل
صحيح أنّ الحكومة تأخرت في الاستجابة للدعوة الملكية بإطلاق نقاش حول تعديل التشريعات الرئيسية، مثل قانوني الانتخاب والأحزاب وغيرهما، لكن أستطيع، شخصياً، إدراك السبب الحقيقي وراء هذا التأنّي الحكومي، فأي دعوة إلى حوار سياسي في ظل المناخ الحالي ستعيد إلى الأذهان تجارب "الحوار السابقة" (لجنة الأجندة الوطنية، الحوار الوطني، التعديلات السابقة على التشريعات السياسية، بما فيها التعديلات الدستورية) التي عزّزت من فجوة الثقة بين الحكومات والقوى السياسية، فمن خلال أي صيغةٍ يمكن أن تأخذ الحكومة عملية تعديل التشريعات، وتتجنب تكرار التجارب السابقة!
في ضوء ما سبق، يمكن فهم حالة القلق العام، إذ تتجاوز المسألة الأوضاع الاقتصادية الصعبة والقلقة، والظروف الصحية المقلقة المترتبة على الجائحة إلى تجذّر أزمة الثقة، وصولاً إلى الشعور العام بأنّ هنالك أزمة في ترسيم رؤية صلبة متماسكة للمرحلة المقبلة، تقنع الجميع بأنّنا نسير في اتجاه صحيح وليس خاطئا، حتى وإن ازدادت الظروف الاقتصادية سوءاً، أو تأخرت الحلول، لكن في النهاية هنالك أفق.
من الضروري، والحال كذلك، أن نعود إلى العناوين الرئيسية، قبل الغرق في التفاصيل الصغيرة. وأقصد هنا ترسيم الحكومة برنامجها السياسي المقبل، فقبل الولوج إلى مناقشة التعديلات المقترحة على القوانين الانتخابية، الأهم هو الدخول في حوار جوهري واضح في كيفية ردم الفجوة المتنامية في الثقة، وكيفية بناء توافق وطني على المسار المقبل، وما هي الاستراتيجية الفاعلة لإدماج جيل الشباب في العمل السياسي. وهذا وذاك يقتضيان تحديد الخطوط الواضحة لما نريد أن نصل إليه، وخريطة الطريق والخط الزمني لتحقيق ذلك.