ليبيا... البركان الخامد
جدّت، في الأيام القليلة الماضية، أحداث مهمّة في ليبيا، غير أنها مرّت من دون أن تثير اهتمام الناس، إلا قلّة قليلة ممّن ظلّوا متابعين شأنَها من قرب؛ المعارك التي جرت بين مليشيات داخل مدينة الزاوية (على مصفاة النفط في المدينة)؛ نقل بعض قطع أسطول البحرية الروسية إلى موانئ الشرق الليبي في إثر مغادرتها السواحل السورية بعد فرار بشّار الأسد. سرقت الأحداث العظام التي استجدّت في السنة الماضية في العالم العربي (الحرب الصهيونية على غزّة ولبنان...) من ليبيا وعديد من بقاع العالم الأخرى الضوء. يعيد العالم ترتيب أجندات ما سيطلق عليها لاحقاً "أحداثاً عالمية". لا ندّعي أن يداً خفيّة تعيد ترتيب هذه الأحداث حتى تمنحها أولوية، ولكن الإعلام ووزن الدول السياسي وموقعها الجيوسياسي، فضلاً عن الرهانات المعقودة عليها، تعيد ترتيب الأحداث نفسها وتمنحها ما يستحقّ من اهتمام وبالقدر الذي يجب. مع ذلك، علينا ألا نغفل أن العقل والمشاعر البشرية غير قادرة علمياً أن تشدّ إلى أحداث بعينها فترات طويلة، يحدث ما يسمّيه مختصو علم النفس الجماعي ضرباً من التطبيع وتكلّس الذهن والعواطف.
ظلّت ليبيا سنوات طويلة في "عزلة" عن محيطها. تشبه ليبيا الربع الخالي الواقع في ذاكرة الناس وخيالهم. لا أحد يتصوّر أن ليبيا تقع في قلب المتوسّط، وأنها مهد حضارات عميقة حكمت المتوسّط قروناً عديدةً (اللوبيون، النوميديون، البونيقيون...)، وأنها كانت كذلك همزة الوصل الصعبة والرخوة بين الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي، في امتداد العصر الوسيط، من دون إغفال منزلتها الحاسمة في حيوية التجارة التي ربطت شمال أفريقيا وما بعد الصحراء الكبرى، تجارة الذهب والملح والعبيد... إلخ. ربّما ما حدث لليبيا خلال الفترات المعاصرة، منذ استقلالها وحتى سقوط نظام العقيد معمّر القذافي، يشبه ما حدث لألبانيا أنور خوجة، مع فارق مهمّ، أن ليبيا المفتوحة على اليد العاملة استجابت بالضرورة لمتطلّبات استخراج النفط.
لا ينكر العقيد هذا المجد التليد الذي ورثته ليبيا عبر تلك الحقب الغائرة كلّها من تاريخها. سمّى ابنه هانيبال، وأطلق على نفسه ملك ملوك أفريقيا... إلخ. ومع ذلك، ضرب عليها طوقاً من حديد. اختفت ليبيا من خريطة البحث العلمي وقلّما نشر كتّاب عنها. الخوف من "الربع الخالي"، وما يجري فيه حقيقة أو توهماً، أدّى إلى تلك العزلة، وليس من الذكاء والفطنة أن ينتبه الباحث إلى قلّة ما ألف عن ليبيا خلال العقود الماضية. مخاطر الإقامة البحثية، والمراقبة الأمنية، ويُسر اتّهام الباحثين بالجاسوسية، جعلت البحث في المجتمع الليبي ونُظمِه السياسية ضرباً من المغامرة البحثية غير مأمونة العواقب.
ليبيا بركان خامد لا نعرف تماماً متى ينفجر، ولكنّ الانفجار قادم
ظلّت الأمور تجري كما هي، إلى أن قامت الثورة الليبية، وتعاقبت حكومات انتهت إلى انقسام ليبيا بين شطرين، شرق وغرب، ومنطقة جنوبية هلامية واسعة تقع عند حدود خمس دول تقريباً (الجزائر والنيجر وتشاد والسودان ومصر). تتعرّض هذه المنطقة بالذات إلى زحف مئات آلاف من المهاجرين القادمين من هذه الدول (أو غيرها) نتيجة موجات الهجرة القسرية. الانقلابات التي حدثت خلال السنوات القليلة، والحروب الأهلية التي اندلعت في السودان وتشاد، وشبكات التهجير بتواطؤ مع تنظيمات (فاغنر والقاعدة)، جعلت تلك المنطقة الواسعة جدّاً، خصوصاً في ظلّ الانقسام الذي عبث بـ"الجيش الليبي" أو ما يفترض أن يكون، وفي غياب قوات أخرى قادرة على صيانة الحدود (درك وجمارك وحرس وطني...)، تهدّدها كوارث محتملة. تتسارع هذه التطوّرات في ظلّ انشغال الشرق والغرب بتدبير أمن كلّ منهما الخاص، الاهتمام كلّه منصبُّ على إدامة توازن الرعب الداخلي وإطالة الحرب الباردة بين الشطرَين.
لا يبدي الشقّان المتحاربان حالياً ما يكفي من اهتمام بما يستجدّ في الحدود، ولا يكترثان بأهمّية الجلوس إلى طاولة الحوار، فالكلّ غانم من هذه الوضعية، مؤسّسة بنكية وطنية توزّع بين الشطرين (الحكومتين)، وتدفقات النفط جارية، وفيؤها لهذا وذاك. يجري الأمر بترتيباتٍ تمّ التفاوض عليها أو قُبِل بها ضمناً. المطارات مفتوحة، وحركة الجوّ صاخبة، وخبراء ورؤوس أموال وتجّار وباعة أسلحة ينزلون ويصعدون. ليبيرالية اقتصادية توهم أن الاقتصاد يتعافى، وأن ليبيا تنهض وتعمّر خرابها الذي عشّش نحو نصف قرن، ولكن "تحت الرماد اللهيب". ليست هذه سوى لوافظ غازية ترميها فوّهات البركان الليبي الخامد. مدخنة البركان الخامد حالياً تتكاثر كلّ يوم، المعارك الجارية بين حين وآخر بين مختلف المليشيات، ومدارها البترول والسلطة، دليل على احتمال الأسوأ. اقتسام النفط والسلطة سيكون عرضةً لعطب قادم، قواعد اللعبة لن تظلّ محلَّ اتفاق الجميع.
يتحدّث بعضهم عن تفوّق الشرق في ضبط الأمن والإعمار. ولكن يبدو أنّه مُجرَّد واجهة، وجزء من رشوة سياسية اقتصادية للحصول على شرعية ما. ليبيا بركان خامد لا نعرف تماماً متى ينفجر، ولكنّ الانفجار قادم. سيكون من الحكمة أن ننصت إلى تلك الحمم الخامدة والحطام الصخري المتناثر هنا وهناك على سفح البركان. الرماد البركاني الذي خلفته الانفجارات السابقة مهمّ لأنه قد يدلّنا على المخاطر التي تحدق بليبيا. على الليبيين أن يحلّلوه تحليلاً مجهرياً لمعرفة ما ستقذفه الفوّهة الجهنّمية القادمة، ولربّما أمكن لهم بفضل ذلك تجنّب ما هو سيئ.