ليبيا وتصارع الساسة
منذ اتفاق الصخيرات، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، دخلت ليبيا في أتون تجاذبات وصراعات سياسية لم تنتهِ داخلياً بعد، ناهيك عن التفاعلات الإقليمية والدولية فيها، حتّى إنّه لم يعد هناك حدٌّ فاصلٌ لكلّ ما هو مقبول وغير مقبول، أو في أقلّ تقدير ما يمكن وصفه بالفعل السياسي المُجرّد، الذي يمكن أن يُبنى عليه أيّ فعل لحلّ أيّ أزمة، أو إحداث انفراج سياسي، بل المصلحة السياسية للأجسام الموجودة في المشهد هي الغالبة. أمّا مصلحة الوطن فهي في آخر سلّم الأولويات، إن وجدت أصلاً. والنتيجة أنْ ضُيّعَت حقوقٌ كثيرة، وتحرّكت مطامع المُفسدين والمتقلّبين، حتّى انحلّت عرى السياسة وصارت للعبث أقرب.
هكذا هو المشهد في ليبيا منذ سنوات، فلا قوانين حاكمه، ولا أفعال تُحاسَب، بل انقسام وراء انقسام، واستقطاب يعقبُه آخر، هكذا دواليك. ذلك كلّه يرجع إلى سبب واحد، غياب القاعدة الشعبية والنُخَب الفاعلة في المشهد السياسي، أو محاولة تغييبها بطريقة أو أخرى، وإلّا لا يستقيم عقلاً، وفعلاً، أن تستمرّ أجسام سياسية أكثر من عشر سنوات فاقدة للشرعية التي أوجدتها أو حتّى التي اكتسبتها بفعل اتفاق سياسي لا أكثر. في المقابل، لم تستطع البعثة الأممية في ليبيا، وعبر مبعوثيها، الذين وصل عددهم إلى تسعة أخيراً، تقديم حلول حقيقية وفاعلة للأزمة، بل الغالب عليها تدوير هذه الأزمة بطريقة أو بأخرى. ويبدو أنّ نهج المبعوثة الراهنة إلى ليبيا يسير على درب من كان قبلها، إذ لم تأت إحاطتها مجلس الأمن اخيراً بجديد، بل بتوصيف لما كان فحسب، من "ضرورة وجود عملية تتحرّى الشمول يقودها الليبيون لتخطّي الجمود السياسي ومساندة الشعب الليبي في تحقيق تطلعاته نحو السلام والاستقرار والازدهار والديمقراطية"، إذ قد يُفهم من هذه الإحاطة أنّ البعثة تدور في النهج الأول من تقديم مصطلح "الخمسة الكبار" بطريقة غير مباشرة، الذي حاولت البعثة في ما مضى السير به لكسر الجمود السياسي، إلا أنّها فشلت، واليوم تعاود ذلك، وإن اختلفت الطرق، حيث جاء في الإحاطة نصّاً: "وقد طرح الليبيون أفكارهم حول الشكل الذي يفترض أن تكون عليه أيّ عملية سياسية تُجرى في المستقبل، بما في ذلك دور الأطراف المؤسّسية الليبية الخمسة الرئيسة، ومن ضمنها مجلسا النواب والدولة، أو حوار بمشاركة أوسع، أو مزيج من هذا وذاك، فضلاً عن مبادرات أخرى". الأمر الذي يتّضح معه أنّ البعثة ستلعب دوراً في قادم الأيام مع المؤسّسات السياسية والساسة الموجودين في الساحة، في محاولة الوصول إلى أيّ اتفاق سياسي يمكن معه الوصول إلى تجديد هذه الأجسام، وإن كان ذلك مستبعداً بناءً على المعطيات السابقة والحالية.
لا بدّ من تفعيل الدائرة الدستورية في ليبيا، من أجل ضبط الإيقاع التشريعي بما لا يخالف القواعد الدستورية الحاكمة
كما أنّ البعثة، في المقابل، أشارت إلى مبادراتٍ أخرى لم تسمّها، الأمر الذي يفهم منه أنّ القفز عن هذه الأجسام ربما سيكون قريباً باتفاق سياسي جديد أو ما شابه، وهذا الذي جاء واضحاً في الإحاطة: "وقد لفت عديدون منهم إلى أهمية تبنّي ميثاق أو اتفاق يؤكّد على احترام الأطراف للنتائج التي ستفضي إليها الانتخابات. وبالمثل، شدّد البعض على أهمية إدراج ما يكفي من تفاصيل وآليات تنفيذ أيّ اتفاق مستقبلي لضمان التزام الأطراف ببنوده".
يبقى سؤال يردّده ليبيون كثيرون: لماذا يبتعد كلّ حلّ للأزمة عن طرح مشروع الدستور والانتقال من المراحل الانتقالية إلى الدائمة؟ وبالتالي، لا بدّ من تفعيل الدائرة الدستورية في البلاد، من أجل ضبط الإيقاع التشريعي بما لا يخالف القواعد الدستورية الحاكمة، وفي مقدمتها الإعلان الدستوري وتعديلاته، الأمر الذي يؤدّي إلى تصحيح الإطار الدستوري الحالي، وتُصحّح معه كلّ الأزمة السياسية والدستورية في البلاد، وإن جاء ذلك وفق إطار توافقي أو اتفاق سياسي شامل.