ليبيا وتعطيل الانتخابات .. انعدام التقدّم السياسي
على الرغم من وضع جدول زمني في ليبيا للانتخابات الرئاسية، وظهور القوائم الأولية، أدى الخلاف السياسي بشأن الطعون لتوقف بطيء ترتب عليه تجاوز يوم التصويت، 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وتعطيل الانتخابات عملياً. وتلاقت إيضاحات المفوضية الوطنية، ولجنة متابعة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مجلس النواب، في استحالة تنفيذها، نظراً إلى صعوبات تحول دون المضي فيها، وعبرت عنه بحالة القوة القاهرة. ويكشف صدور قرار المفوضية، قبل وقت قصير من التصويت، عن هيمنة الأبعاد السياسية وانحسار التكامل المؤسّسي، ومن ثم، يساعد تناول تلقي الجهات المختلفة لتوقف الانتخابات في الاقتراب من ملامح السياق السياسي في المرحلة المقبلة.
وفي تعبيراتٍ خافتة وغير صريحة، صدر بيانا المفوضية ومجلس النواب، في 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بطريقة تُشكل انكساراً للعملية الانتخابية أعاد ليبيا إلى مناقشة مشكلات ما قبل تكوين السلطة الانتقالية. وقد اعتبرت مفوضية الانتخابات أن دور القضاء، وصفته بالمنعطف الخطير، لا يراعي قانون الانتخابات، المادة 10، المتعلقة بشروط الترشيح والخاصة بعدم صدور أحكام نهائية أو التوقف عن العمل قبل ثلاثة أشهر من بدء إجراءات الانتخابات، وما يتعلق بعدم تقديم صحيفة "الخلو من السوابق"، المادة 17. وقد اعتبرت المفوضية أن هذه الشروط غابت عن عدد من المرشّحين، منهم عبد الحميد الدبيبة وخالد شكشك وسيف الإسلام القذافي. وقد اقترب قانون الانتخابات مع حالة العزل السياسي، عندما تجنّب وضع شرط الأحكام الجنائية من دون تحديد فترة زمنية، وكان مبرّر استبعاد نوري أبو سهمين بناءً على حكم صدر في تسعينيات القرن الماضي من دون اعتبار لتقادم الأحكام.
ومن المُحتمل أن يرجع تقارب الجهتين في تفسير تعطيل الانتخابات، لسماح القانون رقم 1/ 2021 بوجود مسؤولية مشتركة مع مجلس النواب، كانت مدخلاً لتشكيل لجنة ثلاثية من المفوضية والقضاء ولجنة من النواب لمراقبة الانتخابات، تتمتع بسلطة التصرف القانوني. وبغض النظر عن تعطيل الانتخابات تحت ضغط الأمر الواقع، والذي يمكن تفسيره في انفتاح قائمة المرشّحين لتشمل كل المُستبعدين، لم تكن التهديدات بإغلاق مراكز التصويت منتشرة أو تمثل ظاهرة. وبهذا المعنى، يمكن تكييف موقفي المفوضية ولجنة النواب متجاوزاً للمحاكم.
منذ بداية ديسمبر 2021، ظهرت توجهات لدى رئيس البرلمان لإعداد خريطة طريق جديدة، تضمن صلاحياته قائداً أعلى للجيش وتمثيل ليبيا خارجيا
ومع تصاعد مشكلات الانتخابات، تفتح توجهات الليبيين للمرحلة التالية التنافس والجدل في شأن الحكومة والإطار الدستوري، وخصوصاً ما يتعلق بالمدى الزمني للحكومة وصلاحياتها. وبينما يؤسّس رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، وضعها حكومةً منتهية على قرار سحب الثقة منها وفشلها في إجراء الانتخابات يجعلها غير قائمة، تختلف مواقف أخرى في تحديد مدى استمرارها. ومنذ بداية ديسمبر/ كانون الأول 2021، ظهرت توجهات لدى رئيس البرلمان لإعداد خريطة طريق جديدة، تضمن صلاحياته قائداً أعلى للجيش وتمثيل ليبيا خارجيا، وهي الصيغة السابقة على اتفاق الصخيرات. وبشكل عام، يُوضح تقييم المفوضية ومجلس النواب مدى الصعوبات للمضي في مسار الانتخابات، حيث لا يمكن وضع ملامح معالجة أسباب حالة القوة القاهرة، وخصوصاً ما يتعلق بالقاعدة الدستورية أو الاستفتاء، وهذا ما يحتاج وقتا يتطلب تشكيل حكومة جديدة بديلة، بعد سحب الثقة من الحكومة الحالية واعتبارها قائمة بتسيير الأعمال.
ومنذ عودته إلى رئاسة البرلمان، بدأ عقيلة صالح في صياغة ملامح المرحلة المقبلة، حيث أشار إلى أساسين: رفض التدخل الأجنبي لتأكيد وضعه مسؤولاً عن تمثيل الدولة، وإعادة تشكيل الحكومة. كما اعتبر دور مجلس الدولة منحصراً في المصالحة الوطنية، كما ربط، بطريقة غير مباشرة، ما بين الاستفتاء على الدستور وإجراء الانتخابات، وهي صيغة تميل إلى تعقيد المشهد السياسي، وتحول دون التقدّم في تكوين مشروعية جديدة للمؤسسات.
وعندما كشف مجلس النواب عن تصوّره لدور المؤسسات الأخرى، بدت مواقفه أكثر تحديداً لخريطة المرحلة المُقبلة، حيث بدأ باستبعاد المجلس الأعلى من مشاورات اختيار رئيس وزراء جديد، وهو ما يتّسق مع عدم اعترافه باتفاق الصخيرات وخريطة المرحلة التمهيدية. ولذلك، اعتبر عقيلة صالح أن الحكومة "انتهت ولايتها ولا يجوز أن تستمر"، وبدا توجهٌ إلى تشكيل لجنة جديدة من خارج المجلسين لصياغة مشروع دستور جديد، وفتح باب الترشيح لرئاسة الحكومة.
بينما تستمر التعليقات الأميركية في دغدغة المشاعر بوجوب انعقاد الانتخابات، بدت التعليقات الأوروبية أكثر تنوعاً
يحدُث تغيرٌ في الصراع السياسي، وبينما تبدو القوى السياسية في الشرق الليبي متقاربة الموقف، تتنوع التوجهات في الغرب الليبي، ويمكن أن تُمهد الأرضية لروابط عابرة للمناطقية. وفي هذا السياق، يمكن فهم لقاء مرشحي الرئاسة في بنغازي، 21 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ليس من وجهة تدافعه نحو تكوين حكومة جديدة فقط، ولكن في إمكانية ترتيب الكتل السياسية على نحوٍ يضمن تقاسم الكتلة التصويتية في الغرب الليبي. ومع تزايد الجدل بشأن تشكيل حكومة جديدة، يُرجّح تماسك مجموعة تشمل فتحي باشاغا، أحمد معيتيق، وعارف النايض، بالإضافة إلى مرشحين آخرين من شرق ليبيا. قد تُوفر هذه المظلة إطاراً يساعد على بقاء الانتخابات حلاً سلمياً، لكنها، في الوقت نفسه، لا تضمن تكوين كتلة حاسمة في السياسة الليبية.
وفي موازة هذه التغيرات، عاد الدبيبة إلى التمركز في موقعه رئيساً للحكومة، وبدأ سلسلة تواصل لتوسيع نفوذه. وأعلن تبنّيه إصدار دستور قبل الانتخابات، وهو يحاول تنسيق مواقف المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، وقسم من مجلس النواب والهيئة التأسيسية لصياغة الدستور. وفي هذا السياق، يُرجِع "تيار يا بلادي" الأزمة إلى تضافر الفاعلين في الأمم المتحدة ومكونات ليبية لتقارب المصالح في الوصول إلى الحكم الفردي. ويمكن الخروج من الأزمة من جانبين؛ يتمثل الأول في استمرار الحكومة الحالية، باعتبارها نتيجة تفاهمات المكونات الليبية والأمم المتحدة، ومن ثم، يكون ظهور مطالب بعزلها صرفاً عن إجراء الانتخابات ومُقدّمة لتمديد الصراعات. ويقوم الثاني على عقد الانتخابات التشريعية وفق تعديلات لدستور 1951 أو الإعلان الدستوري في 2011، لتكون مهمة المجلس تشكيل الحكومة والإشراف عليها، وينتهي دوره بالاستفتاء على مشروع الدستور والانتخابات الرئاسية. وعلى هذا الأساس، يرى أن محاولات تشكيل حكومة جديدة وعزل الحالية سيجعل منها حكومةً فئوية تستمر سنوات.
وبينما تستمر التعليقات الأميركية في دغدغة المشاعر بوجوب انعقاد الانتخابات، بدت التعليقات الأوروبية أكثر تنوعاً. وفيما يشير أكثرها، نظرياً، إلى أهمية الانتخابات، ذكرت ممثلة الاتحاد الأوروبي لمنطقة الساحل الأفريقي، إيمانويلا ديل ري، في 24 يناير/ كانون الثاني 2022، أن تأجيل الانتخابات يرجع للخطأ في إعدادها، وأن مجلس النواب يختار واحدا من التوجهين، إما تشكيل حكومة جديدة يترأسها فتحي باشاغا أو غيره أو بقاء الحكومة الحالية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وفي حالة تشكيل حكومة أخرى، سوف يكون توجه إلى تأجيل آخر، تجري فيها معالجة الدستور وقانون الانتخابات وفق نظامٍ يراعي التجزؤ الظاهر في كل مكونات البلاد. وعلى الرغم من تلك الصعوبات، اقترحت وجود صيغ لتقاسم السلطة وتوازنها.
من السهولة إدراك حرص المجموعات السياسية على ترابطاتها الدولية بقدر أكبر من حرصها على التقدّم خطوة نحو السلم
ومن خلال تتبع نقاط التغير في المراحل المؤقتة، يمكن ملاحظة أن البعثة الأممية تُقلِّب السياسة في ليبيا لتنمية تناقضاتها الذاتية، حيث بدت حاسمةً ومُتراخية المواقف، من دون وجود نقطة مرجعية يمكن الاستئناس إليها، فقراءة مواقفها الحاسمة في الصخيرات وجنيف جاءت في سياق تَجنُب حلول أخرى، منها الحوار الوطني في تونس بين المؤتمر الوطني ومجلس النواب، 2015، وتوحيد مجلس النواب في 2020، وأصرت على شقّ مسارات كانت مُغرية للحرب. وفي الوقت الحالي، تبني موقفها على صلاحية خريطة الطريق حتى يونيو/ حزيران 2022 من دون وضوح ملامح بدائل الأمم المتحدة للوصول إلى دستور وحكومة دائمة سوى عبر انتخابات يتّسع الخلاف بشأنها. وفي النقاش الدائر، تخلص إلى استمرار الحكومة حتى يونيو/ حزيران 2022، من دون تقديم معالجة لتباين النظر الدولي والمحلي تجاه المرشّحين وعيوب قوانين الانتخابات، فقد بدت مشكلة هذه القوانين في وجود محتوى استبعاديٍ يفوق قدرة المؤسسات القائمة. وبالإضافة إلى مخالفة القوانين مع البيئة السياسية، كشفت هشاشة المؤسسات عن تضادّ المواقف من تسيير الانتخابات، حيث أكرهت مراكز النفوذ جهتي المفوضية والقضاء على تقديم قراءات مُتباعدة للقوانين، وهي خبرة تتقارب مع انفراط قدرة المؤسسات على تطبيق قانون العزل السياسي في انتخابات 2014، بحيث صار بقاؤه من دون معنى بقدر ما كان مصدراً للانقسام السياسي. وعلى الرغم من أهمية هذه المواقف، تُمثل قوة ترابط النخب أو المجموعات الليبية بالنفوذ الدولي العنصر الرئيسي لتَعطُل الانتخابت، وخصوصاً مع ندرة توجّه الساسة الليبيين إلى تقوية المؤسسات وإخراجها من وضعية التفكك، وهي صورةٌ أقرب إلى التدمير المتدرّج لإمكانات المجتمع والدولة.
وبالعودة إلى المشكلات السياسية الليبية، ثمة صعوبة في تناول توجّه المكونات الليبية بمعزل عن طريقة اقترابها مع التفاعلات الخارجية، وذلك من وجهة تلاقيها مع دعم الانتخابات أو تحوصلها حول تقسيم المشهد السياسي. ومن السهولة إدراك حرص المجموعات السياسية على ترابطاتها الدولية بقدر أكبر من حرصها على التقدّم خطوة نحو السلم. ويشكل تجاوز جهاتٍ كثيرة اختصاصاتها الانتقالية سِمة ظاهرة في السياسة الليبية، فقد أجرت المفوضية الوطنية اتصالات ديبلوماسية من خارج نطاق سلطتها الانتخابية، عندما التقى رئيس المفوضية، عماد السايح، سفراء أجانب من أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة، وهو ما يُحدث تداخلاً مع الجهات التنفيذية.
وضعت الترتيبات التمهيدية للانتخابات واقعاً يصعب تجاوزه، ويمكن اعتباره من مُدخلات العملية السياسية بامتلاك شرعية المرشّحين حقوقاً مكتسبة
وبشكل عام، يرتبط تعقيد الوضع السياسي بمصدرين. يكمن الأول في رخاوة بعثة الأمم المتحدة، حيث تتراجع حجيتها القانونية ونفوذها إلى مستوى مستشارة للأمين العام، لا تتمتع بجرأة كافية لدعم لجنة الحوار السياسي وإرادة تصدرها المشهد مرة أخرى. ويتمثل الثاني في احتجاج مجلس النواب بأصولية سلطته متجاوزاً مجلس الدولة ولجنة الحوار. يساعد الجدل بين العاملين في تكوين مُشكلة في تعريف السلطة وطبيعتها، وقد ظلت سمة الحكومات المتصارعة منتظمة على مدى الفترات المؤقتة، فما يحدث هو إعادة إنتاج فجوة انتقال السلطة، الأمر الذي يعكسه القلق من تحديد موعد للانتخابات أو التلاقي على الحد الأدنى من شروطها. وعلى أية حال، وضعت الترتيبات التمهيدية للانتخابات واقعاً يصعب تجاوزه، ويمكن اعتباره من مُدخلات العملية السياسية بامتلاك شرعية المرشّحين حقوقاً مكتسبة. وبالتالي، يفتح تجاوز قوائم المرشّحين أو انهيارها إمكانية العودة إلى الحرب الأهلية خياراً مُرجّحاً في ظل غياب القدرة على تغيير مراكز النفوذ والهيمنة المالية والاقتصادية، فلم يبق أمام ليبيا سوى الوصول إلى نظام سلطوي، سواء بالانتخابات أو الانقلاب على الوضع القائم.
ويمكن القول، إن ليبيا، من وجهة التطور السياسي، لم تشهد تقدّماً سياسياً منذ سقوط معمر القذافي، فما زالت في حال البحث عن نقطة البدء، فبعد تعثّر المؤتمر الوطني في يونيو/ حزيران 2013 وقعت في حركة دائرية مغلقة، فيما يتعلق بمناقشات الدستور والانتخابات والانتقال السياسي، وشهدت تصاعداً في الصراع والاستبعاد والكراهية، فما إن تمشي خطوة تتراجع إلى نقطة البداية. ويُعاد طرح الأسئلة الأولية في الانتقال السياسي، حيث صارت ليبيا في وضعٍ لا يمكن معه تقاسم السلطة أو التفاوض حولها، وبدا تعطيل الانتخابات الوجه الآخر لنقص القدرة على التفاهم بشأن قواعد مشتركة، وليس مجرّد القصور في الترتيبات الأمنية أو الاحتجاج بالقوة القاهرة. في الوقت الراهن، تدخل ليبيا مباراة مفتوحة لتفكيك السلطة والصراع على مجلس النواب ولجنة الحوار، بشكلٍ يرسّخ حالة ضعف المناعة ضد الفلتان أو الحرب.