ليست الطبيعة وحدها
نقرأ ونسمع يومياً عن الأعاصير والفيضانات والزلازل أو الهزّات التي تضرب مناطق متفرقة من العالم، إلا أننا لا نرى هذا العدد الهائل من الضحايا إلا في دولنا العالم ثالثية، ما يشير إلى أن الأمر يتجاوز قوة الظواهر الطبيعية إلى بنى متهالكة وإهمال وفساد يساعد هذه الظواهر في حصد هذا الكم من القتلى والجرحى والمشردين.
ثلاثة نماذج عايشناها خلال الفترة الماضية، بداية من زلزال تركيا وسورية في فبراير، وصولاً إلى زلزال المغرب وفيضان درنة الليبية. في الحادثة الأولى التي أوقعت أكثر من أربعين ألف قتيل، دارت شبهات كثيرة حول صفقات فساد في المجمعات السكنية الجديدة. حينها وجه نائب الرئيس التركي في ذلك الوقت، فؤاد أقطاي، أصابع الاتهام إلى 134 مقاولاً في أنحاء البلاد، وأعلنت السلطات التركية اعتقال عدد منهم في أثناء محاولتهم الفرار من تركيا وبحوزتهم مبالغ مالية ضخمة. بعد ذلك، اختفى الحديث في تركيا عن محاكمة هؤلاء، وسط معلومات تربط بين المقاولين ومسؤولين حكوميين، خصوصاً أن البلديات كان من المفترض أن تقوم بدور التدقيق على المباني السكنية، وهو ما لم يحدُث، أو حدث وتم غض الطرف عن المخالفات.
إذاً هو ليس "القدر" فحسب، كما حاول الرئيس رجب طيب أردوغان أن يوحي خلال تفقده المناطق المتضررة، حين قال "إنها أشياء من خطة القدر"، فهناك من ساهم في تسهيل هذه "الخطة".
الأمر نفسه في المغرب، فرغم عدم القدرة على التنبؤ بحدوث الزلازل وعدم وقوع البلاد على خط زلزالي نشط، إلا أن الكارثة كشفت عن ترهل البنى التحتية في مناطق ريفية عديدة، وهي التي كانت الأكثر تضرّراً خلال الزلزال، إضافة إلى ضعف المباني وعدم قدرتها على الصمود أمام أي ظاهرة طبيعية أقل بكثير من الزلزال. وما فاقم من كارثية الحدث وأدى إلى ارتفاع عدد القتلى إلى أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، هو صعوبة الوصول إلى المناطق المتضررة، بسبب افتقار هذه المناطق إلى شبكة طرقات حديثة تسهل عمليات الإغاثة، وهو الأمر المستمر، ما يعني أن أعدادا أخرى للضحايا قد تكون لا تزال مكتومة.
أما فاجعة ليبيا، ودرنة تحديداً، فهي مثال صارخ على الإهمال والفساد سابقاً وحالياً، فإذا كان التنبؤ بالزلازل مستحيلاً، وتضرب بشكل مفاجئ، فإن العاصفة "دانيال" كانت متوقّعة، ومعروف مدى قوتها والكمية التي تحملها من تساقطات مطرية لا تتحملها المناطق الليبية غير المعتادة على هذا الكم من المطر. لكن مع ذلك، لم تكلف الحكومة الليبية، في هذا البلد المنقسم، نفسها عناء وضع خطّة لمواجهة العاصفة، ورسم سيناريوهات مفترضة لتداعياتها وطريقة التعامل مع كل من هذه السيناريوهات. وهذا الأمر عادة ما تفعله كل الدول والمناطق المعتادة على الأعاصير، والتي لا تخلف، رغم أنها أكثر قوة من "دانيال"، أكثر من عشرة قتلى بالحد الأقصى.
وبات معلوماً أن الكارثة في درنة لم تكن وليدة العاصفة فقط، بل تكمن في انهيار سدّي المدينة بفعل عدم قدرتهما على تحمل المياه. وهنا تكمن المفارقة الكبرى، إذ إن سدّين مبنيين لحجب المياه انهارا بسبب عدم قدرتهما على القيام بما تم بناؤهما من أجله. وهنا يطلّ الإهمال والفساد مسبّبين رئيسيين للكارثة، بداية من عدم صيانة السدّين منذ عام 1986، في عهد النظام السابق، وعدم تأكد الحكومة الحالية من أهلية هذين السدّين قبل استقبال العاصفة المرتقبة، رغم التحذيرات الكثيرة السابقة من خطورة انهيار السدّين، حتى من دون قدوم أي عاصفة.
ليست الطبيعة وحدها أو "القدر"، فالطبيعة تضرب في أصقاع مختلفة من العالم، ولكن الاستعدادات لمواجهة مثل هذه الأخطار تجعل مواجهتها أمراً طبيعياً ويسيراً، على عكس الوضع في بلادنا.
هل هناك اليوم من سيستفيد من درس الزلزاليْن والسدّين، ويفحص على الأقل السدود القائمة في عدة دول عربية تحسباً من تكرار الكارثة؟ لا أظن ذلك.