ليست حرباً أهليةً في سورية
تناقلت منصّات ووسائل تواصل أخيراً فكرةً مفادها بأنّ ما جرى في سورية خلال 13 سنة خلت من عمر ثورة الشعب السوري كانت بمثابة حربٍ أهليةٍ، وأنّها التي أدّت إلى هذه المآلات، من العثار الكبير والتعثّر، وأنّ الوصف "ثورة"، بناءً على ما حدث، ينافي الحقيقة. ويرى هؤلاء أن الاندراج في العمل المسلّح، وما قبله وما بعده، يدفع إلى ضرورة إعادة قراءة ثورة السوريين (ثورة الحرّية والكرامة)، ومن ثمّ إعادة تصنيفها وفق سمات الحرب الأهلية، وما يندرج في أتونها، وتحت مسمّياتها ونواتجها.
وسواء كان هذا الطرح الجديد ينبع من نيّة حسنة وطيبة، بلا غايات أو أهداف سالبة، أم أنّه يدخل في سياق نسف الأرضية الوطنية الديمقراطية الشعبية السورية، ومحاولة تشويه وشيطنة ثورة مارس (2011)، النتيجة واحدةٌ، وهي إيصال المتابعين والمهتمّين إلى أنّ سمة الحرب الأهلية هي الصفة الأكثر مصداقيةً وانطباقاً على الواقع، في ملاذات هذا التوصيف، وصولاً إلى عملية لجم الحالة الثورية الوطنية، وتسويد صفحتها (جعلها سوداء)، ودفعها إلى ما يريده نظام الفاشيست الأسدي وداعميه من إيرانيين وروس ومَنْ لفّ لفيفهم.
لم تكن ثورة السوريين في يوم تدخل في سياق الحرب الأهلية، ولن تكون
لكن، إذا أردنا الغوص موضوعياً وعلمياً في سياقات البحث وتعريف مصطلح الحرب الأهلية، وهل ينطبق بالضرورة على ما جرى في سورية منذ 13 عاماً ونيّف، تتمظهر لدينا أمور عديدة، منها أنّ الحرب الأهلية تحاجز وتضادّ وانقسام مجتمعي شاقولي، يُؤدّي، بالضرورة، إلى فتح باب الحرب والاقتتال الداخلي على مصراعيه، وفق أجندة الانقسامات الممكنة والمتاحة، حسب كلّ مجتمع، وحسب كينونة الواقع المجتمعي، إثنياً كان أو طائفياً أو حتّى حزبياً وتنظيمياً. فهل كانت ثورة السوريين قد اندرجت وفق هذا المعطى وهذا التعريف؟ وهل يمكن أن نصنّف ثورةً سلميةً، كما سبق أن بدأت، وانتفض المشاركون فيها في وجه الطغيان الأسدي، الذي خطف الوطن السوري وألغى السياسة من المجتمع، وزجّ المُعارضِين والمُختلفين معه في الرأي في سجون الموت وأقبيته، ثمّ هجَّر (قسرياً) كلّ من يعارضه خارج حدود الوطن. هل يمكن أن نصنّف هذه الثورة الشعبية العارمة التي شارك فيها أفراد من فئات الشعب السوري كلّها، بل من طوائفه كلّها، وتلاوينه وأديانه، ومن إثنياته وتكويناته كلّها، من عرب وأكراد تركمان وشركس وأرمن وآشوريين وكلدان وسواهم، بل من القوى والأحزاب والأيديولوجيات كلّها، الموجودة في سورية، حتّى إنّ آلافاً من البعثيين انضمّوا إلى ثورة السوريين، وراحوا يدعمون الانتفاض الجماهيري، كما شاركت العشائر العربية، وغير العربية، فالقضية بوضوح كانت بين شعب سوري مهدور ومستلب، ويجرى قمعه واستغلاله، ونظام وعصابة سياسية (قروسطية) متخلّفة، ترفض سياقات الدولة المدنية، ودولة المواطنة، وتناكف وتقمع الدولة الوطنية الديمقراطية، وتنهب خيرات الوطن كلّها، وتبيع السيادة الوطنية، عبر الدور الوظيفي، الذي مشى في هديه حافظ الأسد، ثمّ وريثه/ ابنه بشّار الأسد، خلال أكثر من 50 سنة مضت، منشئاً جمهوريةَ الخوف والقمع، ليكون الوطن كلّه إرهاباً منظّماً من أجهزته، مُستمرّاً في كمّ الأفواه وإلغاء أيّ وجود للحرّيات، أيّ حرّيات.
المسألة ببساطة ووضوح كانت هكذا. وعلى هذا المنوال، سار في شوارع دمشق وحلب وحماة ودرعا، والمحافظات كلّها، ملايين السوريين المُنتفضِين ضدّ الطغيان الأسدي، واستُشهد في ساحات الاعتصام والثورة مئات آلاف السوريين، بل وصل عددهم إلى أكثر من مليون شهيد، ضحايا من كلّ الطوائف والإثنيات، وكان ذنبهم أنّهم خرجوا إلى الفضاء الشعبي والشارع، يعارضون عصابة الأسد، ومن يدعمها، فاستقدم نظام الأسد المليشيات من إيران ولبنان والعراق والباكستان وأفغانستان، ثمّ جاء بالقوّات النظامية من روسيا، أواخر سبتمبر/ أيلول 2015، لتقمع المتظاهرين، وقتل من ينادي بالحرّية، من أجل بقاء نظام سياسي قمعي، ينفّذ أجندات عصابته ضمن حالةِ تخادم مع نظام إيران/ الملالي، وكذلك روسيا وسواها.
يمتلك الشعب السوري وعياً وطنياً ديمقراطياً يمنع الانجرار الخَطِر نحو الحرب الأهلية
لم تكن ثورة السوريين في يوم تدخل في سياق الحرب الأهلية، ولن تكون، إذ يمتلك الشعب السوري الوعي العقلاني والوطني الديمقراطي، الذي يمنع الانجرار الخَطِر نحو حربٍ أهليةٍ لا تبقي ولا تذر. وهذه في الواقع حقيقة تفقأ العين، لمن لم يرَ بعد ماهيّة ما جرى (ويجري) في سورية، وما زالت قوى المُعارضة والثورة السورية تضمّ بين ظهرانيها سوريين من الطوائف والإثنيات كلّها، وهكذا كانت سورية في طول المدى، بدلالة ما جرى منذ أكثر من سنة، يوم انطلقت انتفاضة شعب السويداء وجبل العرب، ضمن خطّ وتخطيط وطني شعبي سلمي ديمقراطي، رحّبت به محافظات سورية كلّها، ودعمته، ثمّ قالت ما قال به العمل الوطني الديمقراطي، هذا العمل الذي يجمع ولا يُبدّد، يُوحّد ولا يُفرّق.
عودةً إلى القول إنّ من يُروج مسألةَ الحرب الأهلية وفكرتها لا بدّ أن يعي طبيعةَ تكوين الشعب السوري ويدركها، وينظر برويّة وحكمة إلى ماهيّة ما جرى صبيحة 15 مارس (2001)، ومن ثمّ يُعيد التفكير في كينونة وخطورة أن تُطرحَ اليومَ طروحاتٌ بمثل هذه الأفكار التي يمكن أن تشوّه الثورة السورية، ثورةَ الحرّية والكرامة، ولن تستفيد منها سوى سياسات النظام، وأجندات القمع الأسدي، ومن ثمّ تساهم حالات ترويج هذه الأطروحات في إحداث تشويش وقلاقل لدى السوريين كافّة، وهم الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل كَنْسِ حالة الاستبداد الأسدي وإنهائها، وتحقيق وإنجاز دولة المواطنة المُفتقَدة، التي تضمّ السوريين كلّهم، إذ يأتي ذلك كلّه في لحظة ما، يشعر فيها السوري بأنّ الجميع بات في سياق التخلّي عنه، بعد انطلاق مسارات التطبيع الممقوت مع نظام الأسد، عربياً وإقليمياً.