مأرب .. الحرب والموت والحصار
على امتداد الخطوط الأمامية لجبهات مدينة مأرب وحتى المناطق الداخلية، تتخلق في اليمن فصول مأساة إنسانية لا مثيل لها، فتحت ضغط المعارك العنيفة واتساع رقعتها، يتدافع مئات النازحين يومياً هرباً من الموت، حيث وصلت أعدادهم، بحسب تقارير المنظمات الدولية، إلى أكثر من خمسين ألف نازح، يتجهون نحو مناطق خطرة وغير آمنة في بيئةٍ صحراويةٍ بعيدةٍ عن مصادر الحياة، بما في ذلك فقدان فرصة الحصول على المساعدات الإغاثية العاجلة، وهو ما يعرّضهم للموت جوعاً، فيما يواجه المواطنون في مأرب تحدّيات إنسانية ومعيشية صعبة، جرّاء تمدّد الأعمال القتالية لجماعة الحوثي إلى مناطق حيوية، وقوع المدينة تحت حصار جزئي، ما يعني تضييق خيارات النجاة أمام المدنيين، حيث تلقي معارك مأرب بظلالها المأساوية على اليمنيين، وذلك بتهديدها ما تبقى من أشكال الحياة المتاحة، بما في ذلك كلفتها الإنسانية الباهظة على أكثر من صعيد.
شكّلت مأرب الضلع الرئيس في معادلة الحياة اليومية التي أتاحتها تعقيدات الحرب في اليمن، إذ مثلت النموذج السياسي للتعايش النسبي مقارنةً بالمدن اليمنية الأخرى، وذلك لانفتاح السلطة المحلية على حركة تنقل المواطنين، سواء بتوطين الوافدين أو باستقبال النازحين وتوفير أماكن إيواء مؤقتة، تفي بالحد الأدنى من شروط الحياة، بحيث تحولت مأرب مدينة جاذبة لليمنيين- على اختلاف انتماءاتهم السياسية، بمن في ذلك المعارضون السياسيون الذين تم التضييق عليهم أو تهجيرهم من جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لسلطتها، كما أسهمت حالة الاستقرار السياسي في المدينة، بما في ذلك مركزيّتها بوصفها مسرحا لنشاط المنظمات الإغاثية والإنسانية بتحوّلها إلى وجهة مستقرّة للنازحين من مدن الصراع المجاورة، كالجوف وعمران وصعدة، فضلاً عن اللاجئين من القرن الأفريقي الذين تقطّعت بهم السبل في مخيمات اللاجئين على حدود مدينة مأرب مع السعودية. من جهة أخرى، استقطبت مدينة مأرب جزءا من الرأسمال الوطني الهارب من المدن اليمنية، نتيجة انفلات الأوضاع الأمنية، حيث أسهم في إقامة مشاريع اقتصادية وعمرانية في المدينة، ووفر ذلك فرص عملٍ للمواطنين، تترافق مع تلك الحركة العمرانية المشاريع التي نفذتها السلطة المحلية، وكذلك فرص العمل التي وفّرتها الأجهزة الإدارية التابعة للشرعية، بما في ذلك المنظّمات الدولية التي اتخذت من مأرب مقرّاً رئيسياً لعملها، حيث تحوّلت المدينة وجهةً للعمالة اليمنية، سواء القادمة من مناطق الشرعية أو من المناطق الخاضعة للجماعة، أو من المغتربين الذين رُحِلوا من السعودية نتيجة توطين الوظائف، وفيما تكيّفت مأرب مع الضغط الإنساني المتصاعد على مواردها، من الوافدين والنازحين، أو لكونها معقلا للسلطة الشرعية، بحيث حاولت تجاوز هذه التحدّيات وفق الممكن، فإن العبئين، العسكري والسياسي، اللذيْن فُرضا على مأرب نتيجة الأطماع التوسّعية لجماعة الحوثي التي ترى في ثروات مأرب النفطية والغازية صيداً ثميناً، جعلها عرضةً للاستهداف اليومي الذي طاول كل أوجه الحياة.
تسببت الصواريخ الباليستية المتكرّرة التي تطلقها جماعة الحوثي بقتل آلاف المواطنين وجرحهم، وكذلك تدمير الأحياء السكنية والبنى التحتية
لأكثر من عام، سيّجت مدينة مأرب في إطار معادلة عسكرية مختلّة لصالح جماعة الحوثي، إذ رزحت تحت ثقل الضغط العسكري المكثف لمقاتلي الجماعة، بحيث قوّض ذلك كل مظاهر الاستقرار في المدينة إلى حد كبير، وتبدّى ذلك في تسرّب حركة رأس المال إلى خارج البلاد، الأمر الذي تسبّب بركود اقتصادي، وزيادة معدلات العطالة، بما في ذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ومن جهة أخرى، أدّى تحويل جماعة الحوثي مدينة مأرب إلى هدف عسكري إلى قتل المدنيين والتنكيل بهم، إذ تسببت الصواريخ الباليستية المتكرّرة التي تطلقها الجماعة بقتل آلاف المواطنين وجرحهم، وكذلك تدمير الأحياء السكنية والبنى التحتية، فيما أفضت سياسة مقاتلي الجماعة في استهداف ممنهج لمناطق الأرياف إلى تحويلها أرضا محروقة، ومن ثم تدمير الأراضي الزراعية التي كان المزارعون يعتمدون عليها لتأمين حياتهم اليومية، حيث تم جرّهم قسرا إلى دائرة الفقر، إضافة إلى تضاعف نزوح المدنيين إلى مركز المدينة، ومن ثم تزايد الضغط على الموارد، وانعدام الأمن الغذائي للمواطنين والنازحين في مخيمات النزوح. في المقابل، أفضى استمرار هجوم مقاتلي جماعة الحوثي على مأرب إلى استنزاف بشري للفئة العمرية الأكثر إنتاجا، حيث انخرط المقاتلون من أبناء القبائل، وخصوصا الشباب، للدفاع عن المدينة، وهو ما يمثل مشكلة اجتماعية خطيرة، ستكون لها تبعات في المستقبل.
مثلت مأرب النموذج السياسي للتعايش النسبي مقارنةً بالمدن اليمنية الأخرى، وذلك لانفتاح السلطة المحلية على حركة تنقل المواطنين
تصعيد جماعة الحوثي في جبهات مأرب الجنوبية والغربية في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك اتّساع النطاق الجغرافي للمواجهات، ووصولها إلى الجبهات القريبة لمناطق الثروات، أحدث تداعياتٍ إنسانية على الصعيدين، المحلي والوطني، والتي تمثل أحد مظاهرها المباشرة بارتفاع سعر الغاز المنزلي إلى أضعافه في جميع المدن اليمنية، فضلاً عن انعدامها في المناطق الريفية، وكذلك التسريع من انهيار العملة المحلية في مناطق السلطة الشرعية إلى مستوياتٍ تاريخيةٍ غير مسبوقة، حيث تأرجح سعر الريال اليمني مقابل الدولار وصولا الى 1400 ريال للدولار الواحد؛ إذ إن تهديد آخر معقل السلطة الشرعية في شمال اليمن، وكذلك حالة عدم اليقين من نتائج المعارك بعد سيطرة مقاتلي جماعة الحوثي على مديريتي حريب ثم العبدية ومركز مديرية الجوبة الاستراتيجية، قوّض الاستقرار السياسي الهشّ في المناطق الخاضعة للشرعية، حيث ولّد ذلك حالةً من الانكشاف الاقتصادي، بما في ذلك مضاربة تجار الحرب بالعملة الأجنبية، الأمر الذي سيسبب معاناة إضافية في بلدٍ يعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
ومن جهة ثانية، دفعت استراتيجية جماعة الحوثي، القائمة على عزل المديريات الجنوبية لمدينة مأرب وحصارها لإسقاط المدينة الوضع الإنساني إلى أبعاد خطيرة جداً؛ فمن مديرية حريب إلى مديرية العبدية، وحتى مديرية الجوبة، حيث سيطر مقاتلو الجماعة على مركزها أخيرا، ارتفعت وتيرة النزوح من هذه المناطق، بما في ذلك التي كانت مضيفة وآمنة نسبياً، كما تسبّبت حدّة المعارك بانقطاع حركة التجار الداخلية إلى مديريات مأرب، ما يعني تعذّر حصول المواطنين على المواد الغذائية، إضافة إلى تعطيل حياة المواطنين جرّاء الأعمال القتالية الجارية في مناطقهم أو على الطريق إليها، حيث امتدّت المعارك إلى الخطوط الرئيسية التي كانت تربط بين مأرب وصنعاء والمناطق الأخرى، والتي أصبحت منطقة عمليات عسكرية، الأمر الذي أدّى إلى إعاقة حركة تنقل المواطنين، وحرمانهم من أعمالهم، وما يسببه ذلك كله من خسائر اقتصادية، فضلا عن تعرّضهم للاعتقال في النقاط العسكرية، تضاف إلى ذلك الانتهاكات المروّعة التي يواجهها المواطنون في مديريات مأرب التي سيطرت عليها الجماعة.
معارك الموت التي تخوضها جماعة الحوثي بشراسة في جبهات مأرب تغتال فرص الحياة المتاحة أمام المواطنين
في مديرية حريب، الواقعة جنوب مدينة مأرب، والتي سيطرت عليها جماعة الحوثي قبل اكثر من شهر، مارست الجماعة جرائم عديدة بحق المواطنين، فإضافة إلى حملة الاعتقالات التي طاولت مئاتٍ من أبناء المنطقة، والقتل خارج القانون، قامت الجماعة بتهجير المواطنين، كما نهبت أموال خصومها وممتلكاتهم، بما في ذلك تفجير منازلهم، كما منعت التداول بالعملة المحلية التابعة للسلطة الشرعية وصادرتها لصالحها، إضافة إلى تقييد حركة تنقل المواطنين وفرض أيديولوجيتها الطائفية في المجتمع، ومن ثم دمرت الجماعة كل فرص الحياة في المنطقة التي يسكنها آلاف النازحين، ما تسبّب بنزوحهم من جديد، مع ونازحين من أبناء المنطقة، لينضموا إلى قوافل الشتات الداخلي، ومع تعذّر وصول المساعدات الإغاثية، حتى الآن، إلى آلاف الهاربين من بطش الجماعة، فإن ذلك ينذر بكارثةٍ إنسانيةٍ على المدى القريب. في سياق مماثل، تعرّض سكان مديرية العبدية للتنكيل الممنهج، حيث فرضت الجماعة لأكثر من أربعة أسابيع حصارا خانقا على المديرية من جميع الجهات، بحيث ضاعف ذلك من معاناة المواطنين في المديرية التي يعيش فيها أكثر من خمسة وثلاثين ألف مواطن، بمن في ذلك النازحون من مناطق أخرى، حيث حرموا من الوصول إلى مصادر الماء والغذاء؛ فيما أدّى الحصار إلى إعاقة دخول المساعدات الغذائية، ما تسبب بتفشّي حالات سوء التغذية والمجاعة. وجرّاء ذلك، توفي ثلاثة مواطنين، وتعطّل عمل المستشفى الوحيد، وذلك بعد تعرّضه للقصف من الجماعة، حيث فقد المواطنون فرصة الحصول على العلاج والرعاية، بمن في ذلك ذوو الأمراض المزمنة. جرّاء الانتهاكات المضاعفة وتوسع الأعمال القتالية، تصاعدت حالات النزوح من المنطقة، فيما علق مواطنون في مناطق الاشتباكات، وذلك لرفض الجماعة توفير ممرّات إنسانية، وفيما تدفع جماعة الحوثي مقاتليها إلى حصار جبل مراد، فإن سكانها قد يواجهون مصيرا مماثلا لسكان العبدية، في حال لم تتوقف المعارك في مأرب.
معارك الموت التي تخوضها جماعة الحوثي بشراسة في جبهات مدينة مأرب تغتال، في طريقها، كل فرص الحياة المتاحة أمام المواطنين، وتضيف كل يوم قائمةً طويلةً من النازحين والمشرّدين والجياع إلى مخيماتٍ لا تقي من برد الشتاء، في عراءٍ يتسع كل يوم، فيما تقوّض معارك الجماعة فرص وقف حربٍ عبثية، وبلا أفق، وهو ما يفرض على المجتمع الدولي اتخاذ موقفٍ أكثر فاعليةً من البيانات السياسية المندّدة لإنقاذ المدنيين المحاصرين من مصير مفجع في مدينةٍ يتربص بها الموت والخذلان.