مؤتمر الجري إلى الوراء
قبل تسعين شهراً، تحديداً في مارس/ آذار 2015، انعقد في مصر مؤتمر اقتصادي ثلاثة أيام. وقتئذ، تغنّى الإعلام المصري بضخامة عدد المشتركين من مصر وخارجها. وراحت مواقع الأخبار والصحف المصرية تتسابق في إحصاء المليارات التي ستدخل مصر بعد المؤتمر في صورة استثمارات ومنح وتسهيلات.
بدأ، أمس الأحد، "المؤتمر الاقتصادي... مصر 2022"، وستنتهي أعماله غداً الثلاثاء. أي العنوان نفسه والمدة نفسها، وبالتأكيد أيضاً للهدف نفسه؛ مناقشة أوضاع الاقتصاد المصري ومستقبله. وبالطبع، يحظى المؤتمر "بمشاركة واسعة من الاقتصاديين والمفكّرين والخبراء المتخصّصين" حسب وسائل الإعلام المصرية. ووفقاً لتصريحات من كبار المسؤولين، وتحديداً رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، يسعى المؤتمر الجديد إلى "التوافق على خريطة الطريق الاقتصادية للدولة خلال الفترات المقبلة، واقتراح سياسات وتدابير واضحة تُسهم في زيادة تنافسية ومرونة الاقتصاد المصري".
ومن المفيد هنا التذكير بأن المؤتمر الاقتصادي السابق (2015) حقق فشلاً ذريعاً على كلّ المستويات، فلم تتبلور خلاله أي سياسات أو خطط جزئية أو شاملة، ولا بالطبع رؤية عامة للاقتصاد المصري. والسبب ببساطة أن غاية المؤتمر لم تكن أياً من تلك الأهداف، بل كانت، وفقط، استجلاب أكبر قدر من الأموال الساخنة لتضخّ بعض دفء في شرايين الاقتصاد المتعثر هيكلياً وحركياً. لكن الحكومة المصرية لم تكن مستعدّة لتلبية أيٍّ من متطلبات دخول استثمارات حقيقية إلى اقتصاد حرّ تنافسي. وبالتالي، لم تفِ بأيٍّ من وعودها للمستثمرين خلال المؤتمر. وأهمها، بالطبع، اتخاذ خطوات جادّة وواقعية لجذب الاستثمارات وتشجيع رؤوس الأموال على الدخول في مشروعات مجدية للاقتصاد المحلي. وكان في مقدمة تلك الخطوات المطلوبة والموعودة، إصدار قانون موحّد للاستثمار يتضمن قواعد ميسرة وإجراءات بسيطة وتوقيتات قصيرة. فضلاً عما تسمّى سياسة "النافذة الواحدة" التي تقي المستثمر "الشحططة" واستنزاف جهوده وأمواله ووقته على اعتماداتٍ وتراخيص من جهات متعدّدة.
كان المؤتمر حدثاً دعائياً بامتياز، وليس منتدىً لوضع أو بحث سياسات حسب المُفترض، فقد تبدّدت تلك الوعود وتلاشت معها تلك الصورة الحالمة، بعدما فضّ مؤتمر 2015 أعماله بأيام. ولم تظهر مجدّداً أي ملامح لها، بعدما أسهب المسؤولون وقتها في صبغ المشهد بألوانٍ ورديةٍ متفائلة، وتبشير المصريين بمليارات من الدولارات ستتدفق على جيوبهم.
وبمقارنة سريعة بين مؤتمر 2015 والمؤتمر الذي بدأ أمس، لا يمكن إيجاد أي فرقٍ يُذكر بينهما، لا في الأهداف المعلنة ولا في الفعاليات ولا في التضخيم الإعلامي ولا حتى في موقف الرأي العام الذي يراقب بصمتٍ وأسى. الاختلاف الوحيد في مؤتمر 2022 إعلان رئيس الحكومة المصرية تلقي مقترحات وأفكار، وفحصها من لجنة مختصة. بهدف "الاستفادة من الرؤى والمقترحات التي يطرحها الخبراء للنهوض بالاقتصاد المصري وتعزيز مرونته وصلابته.. وتضمينها في الرؤى والخطط التي ستعمل عليها الجهات المعنية خلال الفترة المقبلة". وحسب التصريح نفسه، اختارت الحكومة، حتى موعد انعقاد المؤتمر، ما يزيد عن 300 مقترح اقتصادي، ستتواصل مع أصحابها اللجنة المختصة وممثلو الوزارات والجهات المعنية؛ بهدف بلورة تلك الأفكار والاستفادة منها في دعم عملية صنع السياسات الاقتصادية.
وبالتالي، لم يتوقف منطق "الجري في المكان" لدى السلطة المصرية وحكوماتها المتعاقبة عند تكرار تجربة مؤتمر 2015 الفاشل بحذافيرها، بل وصل إلى حالة هزلية من "الجري إلى الوراء"، فالمؤتمر الذي بدأت فعالياته أمس انتهى قبل أن يبدأ ولم تعد له جدوى. حيث الحكومة لا تزال تتلقى الأفكار والخطط الاقتصادية المقترحة عليها، وتفحصها وتختار منها وتدرسها، ثم سيناقشها الخبراء والمتخصّصون.