مائدة عامرة للمفاوضات
مع دوران عجلة التفاوض الأميركي الإيراني، غير المباشر حالياً وسيتحول إلى مباشر مع مرور الوقت، يمكن تخيل شكل مائدة التفاوض التي ستكون عامرة بكثير من القضايا العالقة بين الطرفين، والتي لن تقف عند حدود البرنامج النووي الإيراني، بل لعل الأخير قد لا يكون إلا مجرد مقبلات، قبل الانتقال إلى الوجبات الرئيسية الموجودة على الطاولة، والمتعلقة بشكل أساسي بأمن الخليج بشكل عام، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
الحديث العام اليوم في ملف المفاوضات هو عن البرنامج النووي الإيراني وخرق طهران الاتفاق المبرم مع دول 5+1، والانسحاب الأميركي في عهد دونالد ترامب منه، وما تبع ذلك من عقوبات أرهقت الجمهورية الإسلامية، وهي لا تزال تعاني منها، غير أن أهمية هذا الملف بالنسبة للغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، هي ارتباطه بملفات كثيرة متصلة بالأمن في منطقة الشرق الأوسط. والخلاف اليوم حول العودة المتزامنة إلى الاتفاق، أو عودة الولايات المتحدة أولاً ورفع العقوبات، يواكبها التزام إيراني بالاتفاق، قد تكون أسهل العقد المطروحة على الطاولة، فالبرنامج النووي الإيراني، المراقب من كل الاتجاهات، رسمياً ومخابراتياً، يبقى مضبوطاً، سواء بإجراءات الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو بعمليات التخريب متعدّدة الأوجه التي تبقي هذا البرنامج النووي بعيدا عن الوصول إلى نهاياته العسكرية التي تخشاها الدول الغربية.
غير أن القلق الأساسي مرتبط بملف آخر لا يقل أهمية، ولا يزال خارج قدرة الولايات المتحدة أو إسرائيل على تعطيله بشكل كامل. ويمكن تذكر أن الشرط الأساسي الذي وضعته إدارة ترامب للاستمرار بالاتفاق النووي كان إضافة ملحق إليه مرتبط ببرنامج الصواريخ البالستية الإيراني، وهو ما انضمت إليه، بشكل أو بآخر، الدول الشريكة في الاتفاق النووي. هذا الملف لن يكون غائباً عن المائدة التفاوضية الحالية، غير أن التعاطي معه بالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة سيكون مختلفاً عن سابقتها، ولا سيما أن البراغماتية هي سمة نظرة إدارة جو بايدن إلى الملف الإيراني، تماما كما كان الحال مع إدارة أوباما، مع فارق أن هذه الإدارة تسعى إلى عدم تكرار أخطاء فترة حكم أوباما، والتي أطلقت العنان للنفوذ الإيراني للتمدّد في المنطقة، في مسعى إلى إبرام الاتفاق النووي بأي شكل، وتسجيل نقطة تحسب لهذه الإدارة، غير أنه مع الوقت اتضح أنها تحسب عليها.
على هذا الأساس، لا بد أن تكون الوجبات الرئيسية على الطاولة مرتبطة بتصحيح أخطاء إدارة أوباما، والتي تعد فترة حكم بايدن امتداداً لها. غير أن الأمر لن يكون سهلاً، خصوصاً أن إيران تمتلك كل أوراق اللعب، بعدما مكّنت نفسها وحلفاءها في العديد من دول المنطقة، في مقابل أن واشنطن والدول الغربية لا تملك إلا ورقة العقوبات الاقتصادية، بعد استبعاد الخيارات الأخرى (العسكرية مثلاً). وعلى الرغم من أن هذه الورقة مؤلمة لطهران، غير أنها نجحت، إلى حد ما، في التحايل عليها عبر قنوات أخرى، ومنها القناة الصينية بعد الاتفاق الأخير مع بكين، والذي لن يكون غائباً عن مائدة التفاوض، وخصوصاً أن إدارة بايدن تضع الصين هدفاً أساسياً في سياستها الخارجية.
الأوراق الإيرانية، والتي اتضح خلال الأشهر الماضية أن طهران تسعى إلى استغلالها في المفاوضات مع الغرب، تتراوح من اليمن إلى العراق ولبنان وسورية، بكل التشعبات التي تعيشها هذه المناطق، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي. فمساعي إدارة بايدن لإنهاء الحرب في اليمن لا تزال عالقة عند الرفض الحوثي المرتبط بإيران، وتجنيب القوات الأميركية الهجمات في العراق معطّل عند عدم التزام مليشيات الحشد الشعبي بتحييد القوات الأميركية، ومحاولات إنهاء الأزمة الاقتصادية السياسية في لبنان تعيقها شروط فريق حزب الله وحلفائه. قد تكون هذه مجرد عناوين تحمل تشعبات كثيرة ستجعل مائدة التفاوض عامرة بالوجبات صعبة الهضم.