ماذا أخرج الزلزال من بواطن الأرض؟
تنتعش الإنسانية إثر كل زلزال. كل واحدٍ منا، بعيداً كان أو قريباً منه، يشعر بأنه يريد أن يساعد هؤلاء الذين دمّرت حياتهم وبيوتهم بعْصفٍ لا يد لأي إنسانٍ فيه. فقط هؤلاء... إنهم الآن الأفقر، الأضعف، الأكثر عرْضة للتشرّد والجوع والعطش والبرد. عصْف الطبيعة الأهوج، الذي لا يضبطه أي اعتبار، الذي لا يعرف لا هوية ولا ديناً ولا جنسية... جدير وحده بأن يوقظ فينا ذاك التضامن الإنساني النبيل، تلك الشعلة الروحية التي توحّد البشرية في خوفها الكوني اللامتناهي.
لكن الزلزال، ينفخ، أيضاً، في الإنسان مَلَكوت ذاك الشرّ الأبدي، شرّ السياسة بمعناها اللئيم. وهي مغارة سحيقة من الصراعات والمصالح والحسابات... وطبعاً القهر والقتل على أشكاله. كأنّ شراً إضافياً كان في سُبات شتوي، وجاء الزلزال ليخرجه من نومه. وما بين إنسانية توّاقة إلى بعضها، وغول يطلع من بواطن الأرض، يلتهم ما على سطحها، يتفوق على شرورها... مسافات ضوئية. الشرّ غالب فيها، يكاد يكون غير محسوس. يكاد يرتدي ثوب البراءة والفطْنة والمحبة الإنسانية.
وقائع هذا الشرّ وافرة. لا يعطيها حقها مقال واحد. إليك فقط بعض الأمثلة: إثر انفجار مرفأ بيروت قبل ثلاثة أعوام، وكانت كل الأصابع تتّجه نحو حزب الله، أعلن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، أن هذا الانفجار "قضاء وقدر". ولكن بعد الزلزال أخيراً، تجنّدت أقلامه للكتابة عن الزلزال بصفته مؤامرة أميركية أوروبية. وعندها "دلائل" مثل السبْحة، تكْرج الواحدة بعد الأخرى. منها، تحذير السفارة الأميركية في أنقرة مواطنيها لتوخّي الحذر في تنقلها في إسطنبول، خوفاً من هجماتٍ إرهابية على أثر حادثة إحراق المصحف الشريف في السويد، وتوتّر العلاقة بين تركيا والسويد. ثم "دلائل" أخرى: مقارنة بين المساعدات إلى تركيا، وتلك، التي تصل إلى نصفها، المرْسَلة إلى سورية، المناورات العسكرية التي نظمها الجيشَان الأميركي والقبرصي، والتدريبات الأميركية - الأوروبية المشتركة على عمليات إجلاء لزلزال "خطير"، ومشروع أميركي لصناعة كوارث مناخية طبيعية، وخطّة أميركية جاهزة لإخلاء قاعدة انترلخت النووية الأميركية في تركيا... المهم هنا، كما في كل شيء تقريباً، كما في الربيع العربي، كما في انتفاضة النساء في إيران، ثورة 17 تشرين، انهيار لبنان... كله مؤامرة أميركية إمبريالية غربية. ... أما أن يكون انفجار المرفأ، الذي هو من صنع الإنسان، مجرّد "قضاء وقدر"، ويكون الزلزال "مؤامرة"، فهذا يدلّ على أن شراً إضافيا يهزّ محور الممانعة، ليس في جبروتها، بل في تماسكها الذهني، في تراخي عقلها.
كأنّ شراً إضافياً كان في سُبات شتوي، وجاء الزلزال ليخرجه من نومه
مثل آخر، أثقل من سابقه. من يتذكّر الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، وهو يعلن بفرح، بعد انفجار المرفأ نفسه: "الآن انكسر الحصار على لبنان!". بشّار الأسد، من دون أن يعلنها بالسذاجة إياها، ولكن مستلهماً منها، همسَ في أذن مساعده: "الآن انكسر الحصار على سورية!". فانطلقت المكْلمة الممانعة في سجية من أدرك أن دوره ينتعش الآن. وانعجقت الصحف والمواقع والفعاليات و"إعلاميون ضد قانون قيصر" (قانون يعاقب بشار الأسد بخجل على جرائمه بحق شعبه)، وحملات تبرّع لا تقلّ تمويهاً، ومعها جمعيات ذات أسماء "عادية"، يتبيّن أنها على صلة شبه علنية بحزب الله، أو أحزاب غير متنكّرة، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الموالي من دون مواربة لبشّار الأسد، وقافلة مساعدات أولى تحمَّل شعار "قانون قيصر تحت اقدامنا!"، وإرغام وزراء الحكومة اللبنانية على زيارة بشّار الأسد. وسؤال غامِز لامِز: "هل يجرؤ العرب على كسر حصار سورية؟"، وجواب ملْحاح: "ارفعوا الحصار عن سورية!"، أي دعوا العالم يعترف ببشار حاكماً أبدياً لسورية.
ولدهشتي وقعتُ على خبر بيان صادر بعد الزلزال عن "مجلس الأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب"، وقَّعه "رؤساء الاتحادات والنقابات والروابط والأسر الأدبية العربية"، وبادرَ إليه محمد حوراني، رئيس اتحاد الكتّاب السوريين، الرسمي الموالي لبشار الأسد. والبيان يدعو "كل زعماء الأمة العربية من ملوك ورؤساء وأمراء، وكذلك نقابات عربية للوقوف مع سورية"، أي مع بشار الأسد. وعندما بحثتُ عن رئيس اتحاد الكتّاب اللبنانيين، بعدما آخذتُ نفسي على عدم معرفتي به، وجدتُ اسم إلياس زغيب، الذي لا أعرفه. فبحثتُ مجدّداً: انه شاعر، له ديوانان بالعامية، "جراس الحبر" و"قجّة النسيان". على صفحته الفيسبوكية، "مقابلة" مع وزير الإعلام، يشيد فيها بإنجازاته... فتذكّرت أيام كان سهيل إدريس رئيساً لهذا الاتحاد، أو جوزيف حرب، أو سليمان تقي الدين...
إدلب يسكن فيها مليون ونصف مليون لاجئ، لم يُعفهم بؤسهم من البراميل المتفجِّرة والطائرات الروسية، والألاعيب التركية - الروسية
وللمزيد من الدعم لكسر الحصار عن بشّار، يذهب "الفكر" والتحليل الممانع إلى تركيا. فماذا يرى؟ نهاية حاكمها أردوغان. بشماتة معقّلة، يحلّل "أسباب" هذه النهاية. منها أن الصحافة المعارِضة تهاجمه، وأن قادة أحزاب المعارضة ينافسونه في الانتخابات الرئاسية التي ستحصل بعد ثلاثة شهر. منها أيضاً أن الأهالي المنكوبين استقبلوه وهم غاضبون منه ومن سياسته... أي إن الداعين إلى "فكّ الحصار عن بشار الأسد" معجبون به لأنه ليس مثل أردوغان، ليس مهدداً بصحافة حرّة، أحزاب، انتخابات أو أهالٍ. أصلاً، من تجرّأ على بشار أُعدم من زمان، أو اختفى أو قتل في مجزرة أو من دونها، أو هربَ إلى أقاصي الدنيا... والذين بقوا، عليهم إما زيادة موت على موت، أو النهوض للمساعدة والإغاثة، ولكن بعد "زيارة" لمركز المخابرات، وما أدراك... النتيجة، يا لفرحة قلبنا، أن أردوغان، سيطير، بسبب فساده وتسلّطه وتقصيره، فيما "الرئيس" بشّار، باقٍ باقٍ... يجول على المستشفيات، وينطلق لسانه: "الاستعمار الغربي الحديث" وآفات "حصاره" لسورية، شعارا المرحلة.
اما إدلب وضواحيها، الواقعة خارج حكم الأسد، فالأسماء تفيض عنها. حسب الجهة السياسية المتحدِّثة، تسمّى تارة "منطقة المسلحين"، أو "المتمرّدين"، وتارة أخرى "الشمال السوري"، أو "منطقة المعارضة"، أو "الإسلامية، أو "الواقعة في المدار التركي". وكلها أسماءُ تضيّعكَ، لا تعود تفهم. لكن المؤكّد أن تعدد أسمائها يحرمها الهوية، يرسم صورة مبْهمة عنها، ويضعها في مهبّ شرّين مباشَرين، أردوغان والأسد. وهذه التي تحتاج إلى اسم، يسكن فيها مليون ونصف مليون لاجئ، لم يُعفهم بؤسهم من البراميل المتفجِّرة والطائرات الروسية، والألاعيب التركية - الروسية؛ من إغلاق المعابر، إلى تضييق الخناق، إلى منع الإنقاذ عنها في الأيام الأولى للزلزال. وفي تلك الأيام أيضاً، علِمنا بأن عبد الرحمن مصطفى، "رئيس الحكومة المؤقتة" جالَ على المنكوبين. ومن بعده رياض درار، رئيس "مجلس سوريا الديموقراطية"، الذي دخل في مهاترات مع مصطفى، حول قبول أو عدم قبول مساعدات من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردي. والمسلسل لا يقف عند هنا. ففي الأيام الماضية، اشتعل صراع علني بين هيئة تحرير الشام و"الخوذ البيض" الذين وحدهم اشتغلوا على الإنقاذ بما يملكون، وهو متواضع... صراع على من يتصدّر "الإنقاذ"، على الدور، على السلطة التي تجهد "تحرير الشام" لأن تكون مطلقة بيدها. وصراع على "الخيرات" الآتية. فـ"تحرير الشام"، مثل بشّار الأسد، تسرق المساعدات، تحت اسم "الأتاوات" و"الضرائب"، تعرقل وصولها الآن إلى المناطق المنكوبة، ربما لترتيب كيفية سرقتها.
كل هذه شرور مصغَّرة، "ميكْرو" شرور، ولأصحاب أدوار متواضعة. أما على الصعيد "الماكرو"، المكبَّر، الدولي، ذي الأدوار الأكبر، فإن الزلزال هبطَ مثل نعمةٍ جديدة. منح أصحابها مزيداً من الحرية في المناورة والإبتزاز. في اللعب بأقدارنا، بنوع من الانشراح تتيحها تلك الرجفة الخاطفة للأرض، ولحظاتها التي تساوي دهراً.