ماذا بعد اعتقال الغنوشي؟

01 مايو 2023

صورة الغنوشي في مقر حركة النهضة في تونس بعد اعتقاله (14/4/2023/Getty)

+ الخط -

لعب الرئيس التونسي، قيس سعيّد، ورقته الأهم منذ انقلابه الذي مضى عليه ما يناهز السنتين، فباعتقاله رئيس البرلمان المنحل وأهم الشخصيات السياسية في البلاد، راشد الغنوشي، لم تبق في جرابه أوراق كثيرة يغطّي بها فشل سياساته وسوء إدارته الدولة في جميع ملفاتها، ولا أن يلهي بها الجماهير عن قضاياها الحقيقية المتعلقة بمعاشها وأمنها ومصيرها ومصير أبنائها في وطنٍ على أبواب الإفلاس.
تعدّدت إجراءات الرئيس وقراراته التعسّفية بعد استحواذه على الدولة، وتبديل هيئتها ودستورها. ورغم تميّزه باللاعقلانية خطابا وسلوكا في أغلب الأحيان، فقد كان الظن يتجه إلى أنه لن يرتكب بعض الحماقات، من قبيل الخطايا الكبرى التي ستزيد من التضييق على البلاد وخنق شرايينها المالية والاقتصادية، فكان اعتقال الغنوشي أحد أهم هذه الأخطاء التي جعلت صفّارات الإنذار تدوّي في جميع دوائر أنصار الديمقراطية في العالم من مشرقه إلى مغربه، تبعتها بيانات التنديد والرفض لمسار قيس سعيّد التسلطي والمطالبة بكفّ الظلم والتضييقات عن المعارضين السياسيين واحترام الحقوق والحريات.
ما البديل عن الإسلام الديمقراطي؟ أعلن راشد الغنوشي في المؤتمر العاشر لحركة النهضة سنة 2016، وبحضور الرئيس المرحوم الباجي قايد السبسي ضيف شرف، أن الحركة دائمة التقدم والتطور مع مسار التاريخ، وتجاوزت قوالب الإسلام السياسي الموضوعة لمحاصرة هذه التيارات وتصنيفها سلبا إلى رحابة الإسلام الديمقراطي، المؤمن بالتعايش السلمي والتنافس الديمقراطي على خيارات سياسية واقتصادية واضحة، وبآليات مدنية ديمقراطية.

أثبت الغنوشي وحركة النهضة طوال السنوات الفارطة تجاوزهم نظريات إسلاميين تقليديين كثيرين وسردياتهم

أثبت الغنوشي وحركة النهضة طوال السنوات الفارطة تجاوزهم نظريات إسلاميين تقليديين كثيرين وسردياتهم في علاقتهم بالدولة والعمل السياسي المنفتح على الآخر المختلف، وتركيزهم على مقاصدية النص الإسلامي منطلقات رئيسية للفعل والتحرّك، وأهم هذه المقاصد تحقيق حرية الأفراد والشعوب. وقد كان هذا التوجّه مدعاة للتهجّم على "النهضة" من جهات مختلفة، أهمها التيارات الدينية والعلمانية المتشدّدة مع التشكيك في نياتها وصدقيتها، فكلاهما وجهان لعملة واحدة في ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتَمثُّل خطر توسّع مثل هذا الخطاب القريب من هوية عموم الشعب التونسي المحافظ، إن أحسن حامله تسويقه والعمل به والبناء عليه، والذي يدفع قوى التطرّف والغلو للهوامش والعزلة المجتمعية والسياسية.
أخطاء "النهضة" في الترتيبات العملية للحكم على مستوى السياسات والتحالفات التكتيكية لا ينفي عنها النجاح الاستراتيجي النسبي في تقديم نموذج مغاير للحركات الإسلامية في علاقتها بالدولة والمجتمع والمنتظم الدولي، والذي كان يفترض مزيدا من الاهتمام النظري والبحثي والاستثمار السياسي لإنتاج أحزابٍ وطنية ناجعة، بقدر ملاصقتها هموم الناس تلاصق هويتهم وكينوناتهم.
الخطير في اعتقال الغنوشي ليس أن الرجل يُحاسب زورا، بسبب تصريح يعارض فيه الانقلاب، ويحذّر من مغبّة الظلم والإقصاء ونوازع التخاصم والتحارب، على غرار بقية المعتقلين السياسيين المتهمين ظلما بالتآمر على أمن الدولة، وإنما لما يمثّله ذلك من ضرب لنهج فكري وطني معتدل وتقويض لأنساق جديدة من النظريات والممارسات السياسية ذات المرجعية الإسلامية المقاصدية والتقدّمية، وما يستتبعه ذلك من فسح المجال أمام التيارات العنيفة والمتطرّفة.

تهمة الإرهاب لن تكون حكرا على الإسلاميين، إذا لم تلتقط بقية المعارضة الرسالة

هل تتلقى المعارضة التونسية الدرس؟ فشلت المعارضة السياسية لانقلاب 25 يوليو في توحيد صفوفها ضد تغوّل قيس سعيّد، رغم ما تمثله إجراءاته من تهديد للحرّيات السياسية وخطورتها على المشهد الحزبي والمدني، من دون فرز أو استثناء، خصوصا بعد تصريحات متتالية لأنصاره ودعوتهم إلى إلغاء الأجسام الوسيطة بين الدولة والشعب.
عدم إدراك خطورة هذا الخطاب الشعبوي المصاحب لترسيخ سلطة الأمر الواقع جعل من المعارضة المشتتة لقمةً سائغةً بين فكّي النظام البوليسي الجديد الذي لم يتوانَ في تحويل الخلافات السياسية إلى ملفٍّ أمني وزج شخصيات ونواب ونشطاء من مختلف العائلات السياسية في السجون. منهم الغنوشي، وهو الذي وقع اتهامه سنوات من بعض خصومه بالضلوع في الإرهاب وتسفير شباب تونسيين إلى سورية زمن الثورات، وغيرها من التهم الكبيرة. وها هو يُسجن بسبب موقف ورأي يقع تحريفهما واجتزاؤهما لعزله داخل زنزاته وإخماد صوته، في حين تقع محاكمة بعض خصوم الأمس بتهم الإرهاب. ولن يكون الغنوشي الأخير في سجل المعتقلين وسجناء الرأي والفكر، كما أن تهمة الإرهاب لن تكون حكرا على الإسلاميين، إذا لم تلتقط بقية المعارضة الرسالة، أن لا حدود لبطش قيس سعيّد ولا ضوابط، وأنه يستغل هذه الفرقة ويغذّيها باستدعائه الخلافات القديمة بين الأحزاب في بعض خطاباته، ليسهل عليه الفتك بهم جميعا كلّ على حدة وبتؤدة.
للأسف الشديد، لا يزال سلوك جزء واسع من المعارضة والنخبة التونسية يذكّرنا في قولة القس الألماني اللوثري مارتن نيوملر: "‏في ألمانيا، عندما اعتقلوا الشيوعيين، لم أبال لأنني لست شيوعيا، وعندما اضطهدوا اليهود لم أبال لأنني لست يهوديا. ثم عندما اضطهدوا النقابات العمّالية، لم أبال لأني لم أكن منهم. بعدها عندما اضطهدوا الكاثوليك لم أبال لأني بروتستانتي. وعندما اضطهدوني لم يبق أحد حينها ليدافع عني".