ماذا بعد الطوفان؟
رغم "الطوفان" الذي ضربها قبل أيام، وأغرق هيبتها ووأد غرورها وأطاح سمعة جيشها وأجهزتها الأمنية، ما تزال إسرائيل تعاند وتكابر، وتتجنّب طرح الأسئلة الصحيحة عن حقيقة ما جرى، بل إنها تمعن في تضليل العالم. وفي وسع أي متابع لما كُتب ويُكتب في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ يوم السبت الماضي أن يلحظ أن أغلب الكتّاب والمعلقين يتعمّدون تجنّب طرح أية أسئلة بشأن الأسباب العميقة التي أدّت إلى "طوفان الأقصى". ورغم اهتمام هؤلاء بمعرفة كيف تمكّنت حركة حماس من إلحاق هذا الكمّ الهائل من الخسائر بإسرائيل، واتفاقهم على وجود ثغرةٍ كبيرةٍ في بنية منظومة الأمن الإسرائيلية ككل، إلا أنهم يكادون يُجمعون على ضرورة إرجاء البحث في أسباب ما حدث إلى وقت آخر، وبعد أن تكون إسرائيل قد تمكّنت من الثأر لنفسها. وحينئذ فقط سوف يكون على لجنة التحقيق المستقلة، والتي ينبغي أن تُشكّل على نمط "لجنة أغرانات" (بعد حرب أكتوبر)، أن تبحث تفصيلاً في أسباب إخفاق أجهزة الأمن الإسرائيلية هذه المرّة، مثلما عجزت من قبل عن اكتشاف التحضيرات التي كان الجيشان المصري والسوري يقومان بها استعداداً لشنّ الحرب في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
لم يكن بمقدور الكتّاب والمعلقين الإسرائيليين أن يتجاهلوا تماماً كل الأسئلة في تفسير ما وقع وأسبابه، وبدلاً من أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث في جذور الصراع الذي فرضه المشروع الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وأن يقوموا بمراجعة أمينة لسجلّ إسرائيل الدموي، وما يعجّ به من جرائم في حقّ هذا الشعب على مدى قرن، بدأوا يروّجون فكرة أن ما جرى ليس مستبعداً من منظمة إرهابية لا تقل جرماً أو تطرّفاً عن منظمات إسلامية كثيرة غيرها، كانت وما تزال تمارس أقصى أشكال العنف، وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ولتثبيت فكرة أن حركة حماس هي أحد الوجود الكثيرة لهذا التنظيم، راحوا يشبّهون ما جرى لإسرائيل أخيراً بما جرى للولايات المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2001، حين تمكّن تنظيم القاعدة من تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك وضرب مبنى البنتاغون في واشنطن، بل وتعمّدوا نشر أخبار مزيّفة تدّعي أن مهاجمي "حماس" لم يكتفوا بقتل عشرات الأطفال ممن كانوا يشاركون في مهرجان غنائي أقيم على أرض مفتوحة، لكنهم قطعوا أيضاً رؤوس هؤلاء الأطفال ومثّلوا بجثث بعض أمهاتهم أيضاً. الغريب أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، صدّق هذه الأكاذيب، بل وساهم في ترويجها بنفسه، حين أشار إليها، في خطاب عاطفي مؤثّر ألقاه الثلاثاء الماضي. صحيحٌ أن البيت الأبيض حاول تصحيح ما ردّده في هذا الشأن بعد ذلك، حين كشف مسؤولون عن مصدر هذه المعلومات التي ردّدتها مصادر إسرائيلية، ولم تتأكد من أي مصادر مستقلّة، لكن الضرر كان قد وقع، فقد نجحت إسرائيل في الحصول على دعم هائل، ليس من الولايات المتحدة فحسب، وإنما من العالم الغربي كله، وكذلك على ضوء أخضر يسمح لها بالقيام بأي عملي عسكري تراه ضرورياً وملائماً، مهما بلغ مداه أو قسوته، للردّ على عملية "طوفان الأقصى".
تأتي جولة القتال الحالية بين حماس وإسرائيل في وقت يبدو فيه النظام العربي مسلوب الإرادة، وفي وضع لا يُحسَد عليه
المزاج الهستيري الذي يخيّم على الرأي العام الإسرائيلي حالياً، ونجاح نتنياهو في تشكيل حكومة طوارئ، وهي بطبيعتها حكومة حرب، والدعم العسكري والسياسي غير المحدود الذي أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن استعدادها لتقديمه وبدأت به فعلاً، واستدعاء إسرائيل ما يقرب من 360 ألفاً من الاحتياطي، مؤشّرات تدلّ كلها على أن إسرائيل على وشك شنّ حرب كبرى على قطاع غزّة، يبدو أنها ستختلف كلياً عن كل الحروب التي سبق أن شنّتها عليها في أعوام كثيرة سابقة. بل إن تقارير صحافية أشارت، أخيراً، إلى أن إسرائيل أبلغت مصر رسمياً اعتزامها القيام بعملية عسكرية كبرى ضد حركة حماس قد تستغرق ثلاثة أشهر، ما يعني عدم استبعاد إقدامها على اجتياح القطاع برّياً والبقاء فيه، إلى أن تتمكّن من اغتيال قادة الحركة، وتدمير بنيتها العسكرية بالكامل، وإقامة حكومة مختلفة في القطاع، تكون موالية للسلطة الفلسطينية أو جزء منها. لكن السؤال المطروح هنا، وبقوة، ما إذا كانت تلك أهداف قابلة للتحقيق أصلاً. ولأنه يصعب تقديم إجابة محدّدة عن هذا السؤال، يكتفي هذا المقال باستعراض اهم العوامل المؤثرة على قدرة إسرائيل على تحقيقها:
أولاً: حجم الخسائر التي يمكن لإسرائيل أن تتحمّلها في هذه الحالة، فمعظم المراقبين العسكريين يُجمعون على أن هذه الخسائر ستكون كبيرة جداً هذه المرّة، خصوصاً أن الهدف الإسرائيلي من جولة القتال الحالية لا يقتصر على إضعاف "حماس"، بالعمل على تكبيدها أكبر قدر ممكن من الخسائر في الأرواح والمعدّات، مثلما كان يحدُث في العمليات العسكرية السابقة التي اقتصرت في معظمها على سلاح الجو الإسرائيلي، وإنما استئصالها وإسقاط حكومتها في غزّة. ولأن هذا الهدف الطموح لا يمكن أن يتحقّق إلا باحتلال كامل القطاع والبقاء فيه فترة قد لا تقلّ عن عام، ما يعني أن إسرائيل ستصبح في هذه الحالة مضطرّة ليس إلى تدمير (واحتلال) جميع الأنفاق التي يبلغ طولها مئات عدة من الكيلومترات فحسب، وإنما أيضاً لخوض حرب شوارع، وهو أمر لم يتدرّب عليه الجيش الإسرائيلي، ومن ثم يتوقع أن تصل خسائر إسرائيل في الأرواح إلى آلاف الجنود. أما إذا اضطرّت إسرائيل إلى وقف العمليات العسكرية قبل أن تحقّق أهدافها كاملة، سواء بسبب ارتفاع الخسائر في الأرواح أو لأي سبب آخر، فسوف يكون ذلك بمثابة اعتراف بالهزيمة، وسيصبّ لصالح "حماس" في نهاية المطاف التي ستكون قد حقّقت نصراً لا لبس فيه، رغم حجم الدمار الذي سيكون قد لحق بقطاع غزّة عند توقف القتال.
ثانياً: موقف حزب الله والأطراف الإقليمية الأخرى من إعادة احتلال غزّة: استدعاء إسرائيل عدداً هائلاً من جنود الاحتياط يعني أنها تتحسّب لاحتمال اتساع نطاق الحرب المعلنة على القطاع، وتحوّلها إلى حرب إقليمية، خصوصاً أن إسرائيل قامت خلال الأشهر الأخيرة بمناوراتٍ كثيرة استعداداً لهذا الاحتمال. صحيحٌ أن الولايات المتحدة والدول الغربية لا ترغب في اندلاع حرب إقليمية في المنطقة، كي يظلّ الانتباه مركّزاً على الساحة الأوكرانية التي تدور فوقها حرب كونية تمسّ بموازين القوى في النظام الدولي، ومن ثم يمكن النظر إلى وصول القطع البحرية الأميركية إلى شواطئ المتوسط باعتباره محاولة لردع الأطراف الإقليمية عن التدخّل، ولترك غزّة وحدها في مواجهة الوحش الإسرائيلي، غير أن إسرائيل تُدرك، في الوقت نفسه، أن المواجهة مع حزب الله قادمة لا محالة، إن آجلاً أو عاجلاً، ومن ثم ليس من المستبعد أن تنتهز هي الفرصة للتحرّش بحزب الله وجرّه إلى الحرب. على صعيد آخر، يُدرك حزب الله أن تمكّن إسرائيل من كسر المقاومة الفلسطينية المسلحة وتصفيتها، وهو الهدف المعلن لهذه الجولة من القتال، يضعف محور المقاومة في المنطقة ككل، ويغري إسرائيل بالاستدارة لتصفية حزب الله، حالياً أو في المستقبل المنظور. لذا أعتقد أن حزب الله، والذي لن يتعجّل الدخول إلى حلبة القتال، لن يسمح لإسرائيل بهزيمة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وبالتالي ليس من المستبعد أن يتدخّل في الحرب في اللحظة التي يشعر فيها بأن تطوّر العمليات على الأرض بات يميل بشكل حاسم لصالح إسرائيل.
تمكّنت حماس، بالفعل، من إذلال إسرائيل وإلحاق هزيمة واضحة بها، عقب النجاح في تكبيدها خسائر فادحة خلال عملية طوفان الأقصى
ثالثاً: موقف الأطراف الدولية: تأتي جولة القتال الحالي بين "حماس" وإسرائيل على وقع نظام دولي يشهد تحوّلات عميقة، ما يعني أن روسيا والصين ستتابعان ما يجري بكل دقّة، ذلك أن انتصار إسرائيل بشكل حاسم فيها، بتمكّنها من تصفية المقاومة المسلحة الفلسطينية نهائياً، سيصبّ لصالح المعسكر الغربي، وسيدعم إصراره على الاحتفاظ بالهيمنة المنفردة على النظام الدولي. صحيحٌ أنهما لن يتدخّلا مباشرة في القتال، لكنهما سيسعيان، بالقطع، إلى الحيلولة دون إقدام مجلس الأمن على اتخاذ أي قرار لمصلحة إسرائيل أو لإضفاء صفة الإرهاب على "حماس" أو للإضرار بالقضية الفلسطينية على أي نحو.
رابعاً: موقف النظام الإقليمي العربي: تأتي جولة القتال الحالية بين "حماس" وإسرائيل في وقت يبدو فيه النظام العربي مسلوب الإرادة، وفي وضع لا يُحسَد عليه، إلى درجة أن دولة مؤثرة كالسعودية كانت تسعى لتهيئ نفسها وتهيئة الأطراف المعنية للدخول في صفقةٍ تؤدّي إلى تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل، ومن ثم التخلي نهائياً عن مبادرة السلام العربية. ومن الواضح أنه يصعب على السعودية مواصلة السير على هذا الطريق حالياً، بل ستقع الدول العربية التي سبق لها أن قامت بتطبيع علاقتها مع إسرائيل تحت ضغوط شعبية متزايدة لاتخاذ مواقف واضحة، ليس فقط لوقف التطبيع مع إسرائيل أو تجميده، وإنما لمدّ سكّان قطاع غزّة بالمعونات الإنسانية والاقتصادية التي تمكّنهم من الصمود في وجه المحاولات الرامية إلى إبادتهم أو دفعهم إلى مغادرة القطاع.
أخلص مما تقدم إلى أن "حماس" تمكّنت، بالفعل، من إذلال إسرائيل وإلحاق هزيمة واضحة بها، عقب النجاح في تكبيدها خسائر فادحة خلال عملية طوفان الأقصى. صحيح أن إسرائيل تحاول الإيحاء بأن ما جرى لها ليس سوى نكسة مؤقتة، سرعان ما تتجاوزها، حيث سبق لها أن تعرّضت لوضع مشابه في بداية الحرب التي شنّتها مصر وسورية يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لكنّها استطاعت تغيير المسار، وتمكّنت من تحقيق الانتصار في نهاية المطاف، ليس على الصعيد العسكري فحسب، وإنما على الصعيد السياسي أيضاً، ما يجعلها على يقين تام بأنها قادرة على إعادة إنتاج ما جرى في 1973، غير أن الوضع مختلف كل الاختلاف حالياً، ومن ثم لا أستبعد مطلقاً أن تكون الجولة الحالية للقتال هي بداية النهاية بالنسبة لإسرائيل، رغم أن الطريق ما يزال طويلاً.