ماذا لو لم تحدُث صيانة الطابق الأرضي؟
لا أزال أقرأ في الوثيقة التاريخية المهمة الثانية للمفكر والسياسي الأردني العريق، عدنان أبو عودة، وهو جزء ثانٍ من يومياته بعنوان "المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة: فلسطين: الأرض، الزمن، ومساعي السلام... يوميات ووثائق". وكان الكتاب الأول قد صدر في عام 2017، ويتوفر على يومياته منذ بداية السبعينيات تقريباً إلى 1988، فيما يعالج الجزء الجديد (المستدرك) حوادث عديدة منذ 1972 إلى قرابة عام 1986، وهو مخصص لموضوع العلاقات الأردنية - الفلسطينية وجهود التسوية السلمية بصورة مباشرة، وإن يتوفر، بصورة غير مباشرة، على تفاصيل في غاية الأهمية عن السياسات الأردنية وعملية صنع القرار في السياسة الداخلية والخارجية.
الكتاب من إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد حظي بعمل تحريري وتوثيقي دقيق وعميق وملحوظ من فريق المركز. وربما السؤال الأول الذي يتبادر إلى أذهان قراء كثيرين الآن: لماذا المستدرك؟ وما الجديد؟ المستدرك لأنّ القصة بالفعل طريفة، ذكرها محرّرو الكتاب، ففي الكتاب السابق كان واضحاً أنّ هنالك غيابا شبه كامل لسنوات كاملة من يوميات أبو عودة، والسبب أنّ الدفاتر والأوراق التي كتبت عليها كانت مفقودة، ولم تنجح محاولات باحثين في "المركز العربي" في إيجادها، على الرغم من أن فريقاً من المركز ذهب إلى منزله وقام بعملية تفتيش كاملة!
قيمة يوميات عدنان أبو عودة أنّها تضعنا في صورة وقائع وحقائق ووثائق تاريخية لاجتماعات داخلية أردنية وإقليمية ودولية
بعد قرابة عامين، قرّر أبو السعيد (عدنان أبو عودة) أن يقوم بعملية صيانة في الطابق الأرضي لمنزله، فتم العثور على هذه الأوراق التي اختير منها ما له علاقة بالسياسة الأردنية تجاه القضية الفلسطينية، فتخيّلوا لولا عملية الصيانة كيف أنّ هذا الكنز التاريخي والأكاديمي العظيم كان سيندثر، وقصص وروايات ويوميات واجتماعات وكواليس وأسرار خطيرة ومهمة جداً لم تكن لترى النور، تتعلق بالملك الحسين والعلاقات الأردنية - الفلسطينية وكواليس المواقف الأردنية من قضايا العراق وفلسطين وسورية والمنطقة والعالم، كلها لم نكن لنقرأها أو نعرفها، لو لم تحدُث عملية الصيانة المنزلية!
ما النتيجة التي أريد أن أسجّلها هنا؟ هي، أولاً، تحية تقدير وإجلال لعدنان أبو عودة، لأنّه من السياسيين القلائل جداً الذين كتبوا يومياتهم، وكان متفطّناً لأهمية ما يقوم به في عمله اليومي في صناعة التاريخ والسياسات، ولحقّ الأجيال التالية في معرفة ما حدث وقراءته، والأهم: لماذا حدث ذلك ولماذا ذهبت السياسات الأردنية، مثلاً، والقرارات في هذا الاتجاه وليس الاتجاه الآخر. فوق هذا وذاك، لم يُجر أبو السعيد أي عملية تجميلية أو جراحية على اليوميات، أخذها "المركز العربي" كما هي، ونشرها بلا أي تغيير أو تعديل، إلاّ في حدود ضبط التواريخ والتعريف بالأحداث والأشخاص والوقائع.
هنالك من كتب يومياته من السياسيين، في دول عربية عديدة، لكني لم أقرأ أن أحدا في الأردن وأغلب الدول العربية، كتب يومياته بهذه التفصيلات اليومية والشفافية الشديدة مثل عدنان أبو عودة، خلال العقود التي كان فيها (غالباً) شخصية مهمة في الحلقة الصغيرة في عملية صنع القرار في الأردن، منذ أحداث سبتمبر/ أيلول 1970 إلى نهاية الثمانينيات، وهو وإن استمر في تسلّم مواقع مهمة بعد ذلك، بخاصة في الأمم المتحدة، إلا أنّ قيمة هذه اليوميات أنّها تضعنا في صورة وقائع وحقائق ووثائق تاريخية لاجتماعات داخلية أردنية وإقليمية ودولية.
يوميات عدنان أبو عودة هي اليوم المصدر الوحيد، تقريباً، الذي يوثّق اجتماعات رسمية وغير رسمية لملك الأردن، ولحلقة صنع القرار
صحيحٌ أن هنالك مذكرات عديدة لسياسيين أردنيين صدرت أخيرا تسلط الضوء على جوانب مهمة من السياسة الأردنية (مذكّرات مضر بدران، زوجة زيد بن شاكر عن حياته، عبد السلام المجالي، وفي الطريق مذكرات طاهر المصري)، وقبل ذلك كتب الملك عبد الله الأول مذكراته والملك الحسين أكثر من كتاب، لكننا نتحدّث هنا عن "يوميات"؛ أي الوقائع والحقائق والاجتماعات والكلام المنسوب لأصحابه كما هو، مثلما وقع، ما يعطينا "مادّة خاما" للأبحاث والدراسات والتحليلات، بعيداً عن أي عملية تجميل أو تفسير أو تبرير، ومن دون تكييف للأحداث والوقائع بما يخدم المذكّرات نفسها.
تتمثل الفكرة الثانية في حجم الفجوة الهائلة في تأريخ السياسات الأردنية وتوثيقها، وهو أمر ناجم غالباً عن عدم إدراك مؤسسات الدولة أهمية التوثيق والأرشفة، فأغلب السياسيين والمسؤولين الأردنيين لم يوثقوا يومياتهم، ولا توجد آليات ولا مؤسّسات معنية بذلك الأمر، باستثناء جهود لمؤسسات وشخصيات راجعت لاحقاً الوثائق والسجلات والكتب والأوراق الرسمية، لكن عملية التأريخ والتوثيق ما زالت بسيطة ومحدودة.
بالعودة إلى يوميات عدنان أبو عودة، فهي اليوم المصدر الوحيد، تقريباً، الذي يوثّق اجتماعات رسمية وغير رسمية لملك الأردن، ولحلقة صنع القرار، ولكواليس مجلس الوزراء في رسم سياسات واتخاذ مواقف على درجة عالية من الأهمية، وفي وضعنا في صورة اجتماعات غير معروفة سابقاً، وتوجّهات لم تكن واضحة للغالبية في السياسات الأردنية.
تؤكّد اليوميات، عموماً، على أهمية القضية الفلسطينية وجدلية العلاقة الأردنية - الفلسطينية، تاريخياً
قد نجد، مثلاً، في بعض المراجع خطابات الملك الحسين، كرسالته المطولة المهمة إلى الرئيس الأميركي الأسبق، دونالد ريغان، المؤرّخة في 7/8/1981، عن الموقف من القضية الفلسطينية واتفاقية كامب ديفيد، أو رسائله إلى صدام حسين وياسر عرفات وحسني مبارك وإلى دول عربية عديدة، لكن ما لا تقوله تلك الخطابات مباشرةً، لماذا أرسل الملك هذه الخطابات؟ وما هي الرسائل الكامنة خلف الرسائل؟ وكيف تمّ إعداد الخطاب؟ وهي قضايا توازي في أهميتها التاريخية والتحليلية تلك الخطابات والرسائل نفسها، تقدّمها لنا يوميات عدنان أبو عودة على طبق من ذهب.
تؤكّد اليوميات، عموماً، على أهمية القضية الفلسطينية وجدلية العلاقة الأردنية - الفلسطينية، تاريخياً. وتتبع الأفكار التي عرضت للتسوية في مرحلة السبعينيات ونهاية الثمانينيات، منذ كارتر إلى إدارة ريغان، وتسلط الضوء على التحولات الرئيسية في العلاقات الأردنية - العراقية، وفي العلاقات الأردنية - السورية، وتضعنا في صورة عودة العلاقات الأردنية - المصرية فعلياً منذ عهد الرئيس حسني مبارك (بعد اغتيال أنور السادات)، على الرغم من المقاطعة العربية في حينه لمصر، كما تتناول العلاقات الأردنية - الأميركية، والتصوّرات الأميركية لحل القضية الفلسطينية، وسيناريوهات العلاقات الأردنية - الفلسطينية التي كانت تطرح حينها، وكواليس العلاقات العربية – العربية... إلخ.
يمثّل كتاب عدنان أبو عودة، بقسميه، اليوميات والمستدرك فيها، مرجعاً لا غنى عنه لفهم السياسات الأردنية وديناميكيات عمل النظام السياسي، من مقترباتٍ عديدة في السياسة المقارنة (مقترب النخبة السياسية، مقترب النظم السياسية، مقترب صنع القرار...). ويمنحنا مادة علمية وبحثية مهمة عن المحدّدات الفعلية في عملية صنع القرار في السياسات الأردنية، ولا نتصوّر ألا يكون مقرّراً في دراسات تاريخ الأردن والعلوم السياسية في الجامعات الأردنية.