ما الذي حملته زيارة تبّون موسكو؟
كان لافتاً الإعلان عن إقصاء ملف السلاح والعلاقات العسكرية عن أجندة اللقاء بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والجزائري عبد المجيد تبون، في زيارة الأخير إلى موسكو، وحملت معها التوقيع على "إعلان الشراكة العميقة" بين البلدين، إضافة إلى اتفاقية للتعاون في مجال استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية. لكن المعلن لا يعني تقديم الملفّ الاقتصادي الهام بين البلدين على ملفّ التسليح الأكثر أهمية لروسيا، كونها تجني منه مليارات الدولارات، لأن ساسة الجزائر لم يكفّوا عن مطالبة نظرائهم الروس، من دون كلل، بأن تدخل العلاقات الجزائرية الروسية "الاستراتيجية" منعطفاً جديداً، يخلصها من الاقتصار على مجال الأسلحة وتفاهمات السياسة، وينقلها إلى شركاتٍ واستثماراتٍ في مختلف القطاعات الاقتصادية، وخصوصا في قطاع الصناعات البتروكيماوية والبنوك وسواها، وبما يخرج العلاقات الجزائرية الروسية من خانة التعاون العسكري، ذي الاتجاه الوحيد، والذي هيمن عليها منذ أيام الاتحاد السوفييتي المندثر، إلى المجالات الاقتصادية والتجارية وسائر القطاعات الحيوية.
لا يمنع تحييد ملف التسلّح عن أجندة اللقاء، وإحالته إلى قادة عسكر البلدين، إمكانية عقد صفقات غير معلنة بين الطرفين، لأن إخفاءها أو تأجيلها يتماشى مع ضغوط الوضع الدولي المتوتر بين الغرب وروسيا على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، وموقف الجزائر المحرج من الوقوف علناً مع روسيا، خصوصا أن 27 عضواً في الكونغرس الأميركي سبق أن تقدّموا، في سبتمبر/ أيلول الماضي، برسالةٍ طالبوا فيها وزير الخارجية أنتوني بلينكن بفرض عقوبات على الجزائر، وإدراجها ضمن ما يعرف بـ"قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" (قانون كاتسا CAATSA)، الذي أقرّه الكونغرس عام 2017، كونها عقدت صفقات شراء أسلحة من روسيا، قيمتها الإجمالية أكثر من سبعة مليارات دولار، واعتبرها أصحاب الرسالة تصبّ في خانة تمويل آلة الحرب الروسية، وإجهاض حزمة العقوبات المسلّطة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. كما سبق أن وجّه نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو رسالة مماثلة في 14 أغسطس/ آب 2022، اعتبر فيها أن "مشتريات الأسلحة الجارية بين الجزائر وروسيا تصبّ في صالح تدفّق الأموال إلى روسيا، وتهدف إلى تمكين آلة الحرب الروسية في أوكرانيا".
لم تتوقّف الولايات المتحدة عن حثّ الجزائر على تخفيف علاقتها مع روسيا، خصوصا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا
اللافت أن مشروع قانون المالية للعام 2023 خصّص أكثر من 22 مليار دولار لوزارة الدفاع الوطني في الجزائر، لكن في التوزيع النهائي لموازنة القطاعات، التي أعلن عنها في الجريدة الرسمية الجزائرية، تم الإعلان عن تخصيص أقل من 18 مليار دولار لوزارة الدفاع الوطني. والمرجّح أن هناك رابطا قويا بين خفض موازنة الدفاع الجزائرية بنحو 20% والضغوط الغربية، والأميركية تحديداً، التي مورست على القيادة الجزائرية، بالتزامن مع صدور تقارير دولية عن تخصيص الجزائر موازنة ضخمة للمؤسّسة العسكرية، وأنها قد تُبرم صفقات عسكرية مع روسيا، تقدر بحوالي 12 مليار دولار، في العام الجاري. ويدعم ذلك أن ما يقرب من 76% من واردات الأسلحة إلى الجزائر مصدرها روسيا، وأن الدولة الجزائرية شكّلت، على الدوام، إحدى الوجهات الخمسة الأولى عالمياً للأسلحة الروسية.
الواقع أن الولايات المتحدة لم تتوقّف عن حثّ الجزائر على تخفيف علاقتها مع روسيا، خصوصا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الجزائر في نهاية مارس/ آذار 2022، ثم زارها منسّق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك، في بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وذلك ضمن سلسلة ضغوطات أميركية على الجزائر من أجل إبعادها عن روسيا. وكذلك فعل مسؤولون أوروبيون منذ منتصف 2022، الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن الضغط الغربي نجح في كسر التقارب التقليدي بين الجزائر وروسيا، خصوصاً بعد توقيع اتفاقيات ضخّ كمّيات إضافية من الغاز الجزائري نحو أوروبا عبر إيطاليا، وتحوّل الجزائر إلى أكبر مورّد للغاز الطبيعي إلى إيطاليا، التي كانت تستورد سابقاً معظم غازها الطبيعي من روسيا. لكن الانطباع السابق سرعان ما تبدّد بعد زيارة تبّون إلى موسكو، وتأكيده تطابق رؤى ساسة الجزائر وروسيا، إضافة إلى سعيه الحثيث إلى أن تنضمّ الجزائر إلى تكتّل بريكس (BRICS)، الذي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
يسعى الساسة الروس إلى الاتكاء على الجزائر، وتحويلها إلى حليفٍ موثوق به، نظراً إلى أهميتها وثقلها الإقليمي
لا يمكن اعتبار أن زيارة تبّون إلى موسكو تشكّل منعطفاً جديداً في العلاقات الجزائرية الروسية، على خلفية أن تبون لا يمكنه حسم خيار الجزائر باتجاه الانضمام الكامل إلى القطب الشرقي، الذي تقوده روسيا والصين، والابتعاد نهائياً عن المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، بالنظر إلى علاقاتها التاريخية المميزة مع فرنسا، صاحبة الوزن السياسي والاقتصادي الكبيريْن في الجزائر، إلى جانب أن القيادة الجزائرية لا تريد إغضاب الإدارة الأميركية في صراعها مع روسيا والصين.
في المقابل، يسعى الساسة الروس إلى الاتّكاء على الجزائر، وتحويلها إلى حليفٍ موثوق به، نظراً إلى أهميتها وثقلها الإقليمي في المنطقة المغاربية، وفي مناطق من أفريقيا، تشمل على وجه الخصوص مالي والنيجر وغرب أفريقيا، حيث تتنافس روسيا مع الوجود الفرنسي في هذه الدول في إطار صراع النفوذ والهيمنة على مواردها. إلى جانب أنهم يسعون إلى إشراك الجزائر كي تصبح طرفاً في التغيرات الجيوسياسية الحاصلة في العالم والنظام الدولي، بما تمتلكه من مقوّمات وإمكانات وثقل سياسي في منطقتها، لكن زيارة تبّون لا يمكن تحميلها ذلك كله، وأقصى ما حملته يجسّد حرجاً للجزائر على المستوى الدولي، كونها جاءت في وقت تشتدّ فيه حدّة المواجهة الصراعية ما بين روسيا والصين والولايات المتحدة ودول الغرب، ولم تكن محسوبة النتائج سياسياً، لأن من بين ما حملته زيارة تبّون إلى موسكو هو سقوط رهان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تحقيق تقارب فرنسي مع الجزائر، لأن تبّون اختار القيام بزيارة دولة إلى موسكو، بدل زيارته إلى باريس التي كانت مقرّرة في النصف الثاني من يونيو/ حزيران الحالي، الأمر الذي قد يلقي بظلاله على العلاقات المتقلّبة والمعقدة بين فرنسا والجزائر.