ما الذي ينتظر العراق؟
على مواقع التواصل، وعلى ألسنة سياسيين ومحللين، "مزاعم" متداولة عن قرار دولي قد اتُّخذ بإسقاط "العملية السياسية" الطائفية القائمة في العراق، وإنتاج عملية سياسية وطنية تضمن حالة أمن واستقرار، وتوفر الخدمات العامة، وتقضي على آفة الفساد، وتحترم الحريات الأساسية للمواطنين.
ثمّة من يذهب إلى أكثر من ذلك، ليؤكد أن من عُدَّ مسؤولاً عن خطايا السنوات العشرين المنصرمة وجرائمها، سيُحال على القضاء العادل، كي ينال جزاءه عمّا اقترفته يداه. وبينهم من يضيف: "ستُنصب للقتلة واللصوص أعواد المشانق"! ويجزم آخرون بأن إدارة الأزمة العراقية ستوكل إلى الإنكليز، باعتبارهم أصحاب تجربة عريضة في شؤون العراق ومعرفة بخباياه وأسراره استمرّت منذ الحرب العالمية الأولى وحتى العهد الجمهوري، وكانت لهم علاقات واسعة بفئات مختلفة من العراقيين، سياسيين وعسكريين ورؤساء عشائر وأكاديميين ورجال دين، وبعض أبناء هؤلاء وأحفادهم ما زالوا يحنّون للأيام السالفة، فيما يبدو الأميركيون قليلي خبرة في الشؤون العراقية، وقد كشفوا عن نقص خبرتهم وضحالة تفكيرهم في إقدامهم على غزو العراق بمبرّرات كاذبة، وكذلك في ما فعلوه فيه على مدى الأعوام الماضية، وقد حقّقوا ما يريدونه من احتلالهم له، إذ جعلوا منه كياناً هجيناً قاصراً عن أداء أي دور، ولم تعد له أية فاعلية، وقد لا يمكنه الوقوف على أقدامه مجدّداً إلا بعد حفنة سنين، وأضافوا أن ما يدفع الأميركيين إلى ذلك أيضاً انشغالهم بقضايا عالمية أخطر وأهمّ، حرب أوكرانيا والعلاقات مع روسيا، والتحدّي الصيني ومسألة تايوان.
أخبار وتقارير مفبركة، تجتهد في إنشائها جيوش إلكترونية مموّلة، تتبع هذا الطرف أو ذاك، ولها غاياتها المعروفة
وتستند معظم هذه التوقّعات إلى أخبار وتقارير مفبركة، تجتهد في إنشائها جيوش إلكترونية مموّلة، تتبع هذا الطرف أو ذاك، ولها غاياتها المعروفة. ومعلوم أن مثل تلك الأخبار والتقارير التي لا تحتمل قدراً من الصدقية تنتقل في الفضاء الإلكتروني ثماني مرّات أكثر مما تتنقل فيه الأخبار والتقارير الصحيحة، فضلاً عن أن متابعين يجدون فيها ما يحوّل أمانيهم إلى حقائق، ويبنون عليها قناعاتهم ويروّجون نشرها. لكن القراءة الذكية لما يحيط بنا تجعلنا نميل إلى تقرير ما نراه واقعاً ماثلاً أمام العين أن الولايات المتحدة التي كلفتها الحرب ما يقرب من تريليونين ونصف تريليون دولار، لن تترك العراق، لأنها وجدت فيه منجماً من ذهب، يعيد إليها بعض خسائرها، فضلاً عن قناعتها بأن موقعه الاستراتيجي يضمن لمظلّتها على منابع النفط القوة والمنعة، ثم إن العراق، في حساب الطموحات الصهيونية التي ترعاها واشنطن، يشكل "عقدة" خطيرة أمامها إذا ما استعاد دوره. وهذا يكفي لبقاء أميركا ساكنةً فيه مهيمنة على قراره إلى أمد قد يطول. وهذا لا يمنع دولاً أوروبية، مثل بريطانيا التي لديها تاريخ طويل مع العراقيين، من أن تعمل على مدّ نفوذها إليهم، أو حتى أن تتدخل في شؤونهم، خصوصاً أنّ العراق أصبح مفتوح الأبواب والشبابيك أمام الجميع، ومن شاء أن يدخل أو يتدخّل فليفعل، من دون أن يخشى رادعاً!
كل تغيير، إن كان ثمّة تغيير في الأفق، لن يتعدّى الخطوط الحمر المرسومة للعراق من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة
وفي بعض ما رصدناه من بعض تقارير مفبركة، اعتمادها على إشارة للثعلب الاستراتيجي العجوز، هنري كيسنجر، لم يقل فيها أكثر من أن "تغييرات مهمّة محتملة في منطقة الشرق الأوسط"، ولم يفصح عن تفاصيل، فيما أوّل البعض قصده بأنه يقصد تغيير الحكم في العراق، ومنهم من استخدم إحاطة ممثلة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، أمام مجلس الأمن، للتدليل على صحة تحليله، وكانت قد أنذرت الطبقة السياسية "المنشغلة بمعارك السلطة" من أن العراقيين لن ينتظروا طويلاً، ودعتها إلى أن تشمّر عن ساعدَيها لمعالجة الأولويات، خصوصاً في صراع السيطرة على الموارد ولعبة السلطة، ولوّحت لها باحتمال قيام مبادرة دولية ذات زمن محدود لمعالجة الوضع.
ومع ما يجري ويدور، تظلّ هناك "لكن" كبيرة، تطل بعنقها أمامنا، إذ إن ذلك كله لا يعني أن العراقيين مقبلون على مرحلة "سمن وعسل"، وأن استعادة العراق مكانته ودوره في العالم والمنطقة أصبحت في متناول اليد. بالعكس، كل تغيير، إن كان ثمّة تغيير في الأفق، لن يتعدّى الخطوط الحمر المرسومة للعراق من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة. ولذلك، تبدو كل التنظيرات والتحليلات الوردية والمتفائلة غير واردة، بل قد يزداد العراق انقساماً وتفكّكاً، وعندها نخشى أن تصدق نبوءة شاعرنا الراحل، سعدي يوسف، الصادمة:
"سوف يذهب هذا العراق إلى آخر المقبرة/ سوف يدفن أبناءه جيلاً فجيلا/ ويمنح جلاده المغفرة/ لن يعود العراق المسمّى/ ولن تصدح القبّرة"!