ما بعد مهلة قانون الجمعيات في مصر
لا يفصل النظام المصري، الذي يفخر بإدمان المقايضة، بين الشأن الحقوقي والفعل السياسي، ففي كليهما يتوجه إلى الخارج، وكأنه لا يوجد داخلٌ يعاني أزمات حقيقية خانقة، إلى درجة أن مراكز أبحاث معتبرة تعتقد أنه يقف على حافّة انفجار مدوّ، فكلما اشتدت الأزمات، وتوقّع المحللون انفراجة حقوقية، خرج من رحمها قمع أكثر تشدّداً، وكأن الوضع الحقوقي هو الرهينة الوحيدة التي يملك النظام زمامها، ويجيد المناورة والاسترزاق من خلالها. أو أن تغيير فلسفة الدولة العدائية تجاه أوضاع حقوق الإنسان يعني ضعفها ومؤشّرا على قرب سقوطها وزوالها، فسجن بدر 3، واقعياً، هو النسخة الأشد قسوة وتنكيلاً من "العقرب"، والضغط الأمني الإجرامي في ملف المعتقلين، والذي تلا قمّة المناخ كوب 27، غير مسبوق خلال السنوات العشر الماضية. وملف الحوار الوطني كان حقنة مسكّنة لتمرير قمّة المناخ، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، والتي اعتبرها الرئيس عبد الفتاح السيسي اللحظة المضيئة في تاريخ مصر المعاصر، صدرت من واشنطن وإلى واشنطن، وهي من أدوات تجميل عابرة كانت تهدف فقط إلى تخفيف الضغوط على إدارة الرئيس بايدن أمام انتقادات الجماعات الحقوقية.
يعتقد الرئيس المصري بفخر أن شعبه يهوى مبرّراته عن التحدّيات الأمنية والاقتصادية، والحكومات الغربية لا ترى سوي مصالحها، مع الدور الذي تلعبه القاهرة في إدارة الأزمات بين الفصائل الفلسطينية في غزة والجيش الإسرائيلي، وكذلك دورها المبالغ فيه في محاربة الإرهاب الإقليمي، ومراقبة الهجرة. ويبقى مفتاح التغيير في يد دول الخليج التي خرجت عن طوع السيد الأميركي مستندة إلى فائض النفط، ودروس ثورات الربيع العربي في 2011، والتي نجحوا بسهولة ويسر في قمعها ووأدها، وجني عشرات المكتسبات من فشلها، فيما سقطت شعوبها في آتون الفقر والقمع والاستبداد سنوات.
على هامش مؤتمر الشباب الدولي في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أعلن السيسي وجود "عوار" في قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية، بعد عام ونصف العام من تصديقه على القانون المثير للجدل. ولكن تدخّل السيسي دائماً في مناطق العوار بمثابة ردّة إلى الخلف واستغلال للعوار لا درئه، فإشارته إلى النيات الحسنة التي كُتب بها دستور 2014، انتهت بتقنين مكتسبات ذاتية جديدة وإضافة سنوات في الحكم، قابلتها معاناة للمعتقلين والحقوقيين وسائر فئات الشعب. وقد دعا السيسي، في مؤتمره حينها، إلى تشكيل لجنة لتعديل القانون وإجراء حوار مجتمعي بشأنه، قبل تقديمه مرة أخرى لمجلس النواب. ولكن في 20 يوليو/ تموز 2019، وافق البرلمان المصري، من دون أي حوار مجتمعي، على مشروع قانون جديد بديلاً عن قانون 2017، لكنه لم يتضمّن أي تعديلاتٍ جوهرية. وبدا أن التعديلات شكلية، وجاءت لتحسين سمعة النظام أمام المجتمع الدولي، حينما كانت جحافل الشرطة تعرّج على منازل عشرات الرموز الليبرالية، لتقتادها إلى دولة السجن الكبير، في حملة قمعٍ بدأت ولم تتوقف.
سجن بدر 3، واقعياً، هو النسخة الأشد قسوة وتنكيلاً من "العقرب"، والضغط الأمني الإجرامي في ملفّ المعتقلين، والذي تلا قمة المناخ كوب 27، غير مسبوق خلال السنوات العشر الماضية
وفي 5 إبريل/ نيسان الحالي، قالت وزيرة التضامن الاجتماعي، نيفين القبّاج، إنَّ المنظمات غير الحكومية التي لم تُسجل بموجب قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي لسنة 2019 بحلول 12 إبريل/ نيسان الحالي تواجه خطر الحل. وجاءت تصريحات الوزيرة المصرية على ما يبدو في إطار فصل جديد من فصول المقايضة التي لا تنتهي باستخدام ملفّ قانون الجمعيات مع الحكومات الغربية، ورسائل متكرّرة من النظام المصري بأن أي ضغوط خارجية، خصوصا في ملف صندوق النقد الدولي، التي لم تحل الأزمات الاقتصادية ولم تجلب سوى الفقر لقطاعات واسعة من الشعب الذي يعاني الجوع عياناً، تعني أن النظام سيتشدّد في القانون، وسيصّعد في ملف الجمعيات. وكان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأسبق زيد بن رعد قد وصف القانون في يونيو/ حزيران 2017 بالرجعي، واعتبر أنه سيصعّب رصد المنظمات غير الحكومية لأوضاع حقوق الإنسان ويجعلها أكثر عرضة للانتقام من السلطات.
وفي حين ألغى المشرّعون عقوبات السجن في القانون الجديد 2019؛ إلا أنهم أبقوا على قيود مشدّدة على عمل المنظمات تجعله قمعياً. ويمكن القول إن البعد الإيجابي الوحيد خلال الأعوام الماضية كان المهلة التي أعطيت للمنظمات لتقنين أوضاعها، والتي كانت بمثابة متنفّس واستراحة محارب لدراسة الخطط والبدائل، لكن لحظة الحسم جاءت بعد انتهاء المهلة، وعليها الآن الاختيار بين خيارين كلاهما مرّ، التسجيل وعدم التسجيل، ففي الحالتين، ستقع كل المنظمات بين المطرقة والسندان، وسيصبح لدى الحكومة المصرية مبرّر لتقنين القيود، انتهاءاً بالسحق. فمع إقرار القانون، ستصبح الكيانات المسجّلة خاضعة كليا لإشراف الأجهزة الأمنية (الخصم) والتي ستملك سلطة التفتيش والمراقبة لأعمالها، وبالتالي السيطرة على أدواتها ومخرجات أعمالها.
أجاز القانون للوزير المختصّ سلطة إغلاق المنظمات عاما، وأن يطلب من المحاكم حلّ المنظمات ومصادرة أصولها، في حال تلقّت أموالاً أو تعاونت مع منظمات أجنبية من دون تصريح، وإذا لم تقُم بـ"أعمال فعلية أو برامج جدّية" مدة عام!. وأجاز استغلال تشريعات مكافحة الإرهاب بما يسمح بمعاقبة المنظمات. إضافة إلى استحداث نصّ يمنح موظفي الوحدات صفة مأموري الضبط القضائي. أما المنظمات التي تعمل من دون تسجيل، ففرض عليها غراماتٍ مالية ضخمة بين مائة ألف جنيه ومليون جنيه، إضافة إلى إغلاق المقرّ ومصادرة الأموال والحرمان من مزاولة النشاط سنة.
تراوحت العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني بين السماح بالعمل والتقييد والتحجيم
لذلك، لن يخرج الوضع الراهن ما بعد المهلة الأخيرة عن ثلاثة احتمالات: تمرير القانون بشكل كامل، والتصعيد أمام كل من لم يضبط أوضاعه. أن يتراجع السيسي أمام الضغوط الخارجية وأزماته الداخلية العميقة، ويعطي مهلة جديدة للجمعيات لتقنين أوضاعها، وسط زخم دعائي بأنه أنقذ الجمعيات وانحاز لها. تمرير القانون، لكن مع التغاضي عن التطبيق الكامل كمقايضة متغيرة بحسب الضغوط الغربية عليه، تشتد حيناً وتضعف حيناً آخر. والاحتمال الثالث هو الأرجح، وتدعمه سابقة تعامل النظام مع ملف القضية 173، لسنة 2011، والمعروفة إعلاميا باسم "التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني"، والتي استخدم فيها النظام مع زملائنا من المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمّات الحقوقية تعسّفي المنع من التصرّف في الأموال والسفر إلى الخارج. وبين وقت وآخر، يستخدم قاضي التحقيق في القضية من أجل إرسال رسائل وتصعيد في حال الاحتياج، كما أن النظام حاليا بحاجةٍ إلى إظهار أن المنظمات الحقوقية كذلك منخرطةٌ في عمليات الحوار الوطني والاستراتيجية الوطنية، حيث يجرى استخدام اسمها دعاية في تلك المسرحية، فيما يبقيها تحت سيف القضية. كما أنه يكفيه أكثر من 35 ألف منظمة شكلية سطحية غير حكومية سجلت بموجب القانون، لن يتعدّى دورها معارض الملابس في الأزقة والشوارع، تحت لافتة صندوق تحيا مصر، وبرعاية رئيس الجمهورية.
عموماً، ربما تستمر الحكومات الغربية في رؤيتها الجزئية للأوضاع في مصر، من أجل تمديد مهلة المنظمات، فقط، وكأنها هدف بحد ذاته، وتتجاهل الضغوط على النظام، المثخن بجراحه والغارق في مشكلاته الداخلية والخارجية، خصوصا بعد تسريبات البنتاغون التي كشفت عن تورّطه إلى جانب الروس في مستنقع الحرب الأوكرانية، أو في المنزلق السوداني، وذلك من أجل تحقيق انفراجه شاملة.
في المقابل، على المنظمات الحقوقية المصرية المستقلة الجاهزية لخوض مرحلة نضالية جديدة، بما تحمله من شدّ وجذب يصل إلى الخنق، وتفعيل أدوات جديدة وابتكارها لمساعدة زملاء الداخل، وتخفيف الضغط عليهم، واستمرارية مساعدتهم ومعهم أجيال من الضحايا الحاليين والمحتملين، وتنويع آليات التأقلم والمقاومة، والتي حددها سابقا زميلنا خالد منصور بـالتكيف ورفع الكلفة السياسية وبناء التحالفات وبناء دوائر المناصرة، وذلك بعد أن نكثت إدارة بايدن وعودها واستمرّت فى منح الجنرال المدلل، ديكتاتور ترامب المفضل، مزيدا من الشيكات على بياض، كصك لممارسة مزيد من الإقصاء والقمع.
المجتمع المدني المصري، المثقل بمخرجات عشرية القمع، أُكل يوم أكل الثور الأبيض، حينما تغاضى عن إغلاق ألف جمعية كانت تقدّم الدعم والمساعدات للفقراء عقب انقلاب 2013
وضعت مصر أول تنظيم قانوني للمجتمع المدني في دستور 1923. ومنذ ذلك الحين، تراوحت العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني بين السماح بالعمل والتقييد والتحجيم، حتى شهدت فترة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر تأميم المجال العام بأكمله. ولكن يمكن القول إن نظام 2013 تجاوز ذلك كله إلى تأسيس نموذج قمعي منهجي فريد.
ويستند نظام السيسي في رؤيته النهائية إلى أن يقتصر نشاط منظمات المجتمع المدني، دوماً، على مجالات التنمية والرعاية الاجتماعية وفق خطة الدولة واحتياجاتها التنموية وأولوياتها، وحظر ما عداها من أنشطة، عبر ترسانة قوانين وتشريعات مقيدة، بعد استنفاد أدوات عديدة، منها حملات الإساءة والتشويه والشيطنة والاتهام بالخيانة والعمالة للخارج، وفرض الرقابة والحصار القضائي.
ولا تمنعنا تلك الأزمة من التذكير بأن المجتمع المدني المصري، المثقل بمخرجات عشرية القمع، أُكل يوم أكل الثور الأبيض، حينما تغاضى عن إغلاق ألف جمعية كانت تقدّم الدعم والمساعدات للفقراء عقب انقلاب 2013، وعلى يد أحمد البرعي المحسوب عليه، بزعم أنها تعود للإخوان المسلمين، في إشارة إلى أن نيات النظام القادم على ظهور الدبابات كان السحق الكامل لمعارضيه على كل المستويات، من دون الالتزام بقانون أو دستور. وكان الهدف في الأخير تدمير المجتمع المدني، لتصبح البلاد مهيأة لفرض نموذج قمعي أشد قسوة على المدى الطويل، وسط أجواء مؤاتية وصمت قبور، فهل من متّعظ؟