ما فعلته الناصرية بمقتدى الصدر
بعد الضربة الموجعة التي تلقاها على يد ثوار الناصرية، في جنوب العراق، فقد مقتدى الصدر توازنه، وطار صوابه. وللإنصاف، لا لوم عليه ولا عتاب، فبدلا من أن يفي بوعده، ويأتي برأس الثورة معلقا على رمحه، أتت الثورة برأسه، ورأس جماعته ومحازبيه ومليشياته، ففقد أمل الفوز بمنصب رئيس الوزراء، أو تشكيل ما كان قد وصفها حكومة صدرية أبوية. حيث ألحق ثوار الناصرية الهزيمة به، وعادوا ظافرين، ليس إلى ساحة الحبوبي، مصنع أبطال الثورة فحسب، وإنما عادوا إلى ساحات التحرير في البصرة والكوت والسماوة والعمارة والنجف وكربلاء. وسط هتافاتٍ مدوّية، ندّد بعضها بمقتدى شخصيا، مثل "لا إله إلا الله مقتدى عدو الله". واحتج بعضها الآخر على بيت آل الصدر، لتتوّج بعودة الثوار إلى ساحة التحرير في العاصمة العراقية بغداد.
رأس الثورة كلمة السر الجديدة للفوز برئاسة الحكومة. وبالأمس، كان عربون الفوز بمنصب رئيس الوزراء ينحصر في تقديم فروض الولاء والطاعة، إما للمحتل الأميركي أو الإيراني أو لكليهما، إضافة إلى ضمان مباركة المرجعية الدينية في النجف. أما بعد قيام ثورة تشرين العظيمة، فقد أصبح عربون الفوز بمنصب رئيس الوزراء التعهد بإنهائها. وهذا ما يفسّر لجوء مقتدى إلى توثيق أفعاله تلك، بالصوت والصورة، ليقدّمها إلى الأميركيين والإيرانيين، على خلاف القتلة الذين يحاولون طمس أي دليل يؤدي إلى الوصول إليهم خوفا من العقاب. ولكن هذا ليس كل شيء، فبالإضافة إلى سقوط هيبة مقتدى ومكانته المتميزة بين رموز العملية السياسية، جرّاء فشله في تحقيق وعده بالإتيان برأس الثورة، جاءت الضربة الموجعة الأخرى على يد أهل بيته. حيث تمرّدت عليه مجموعاتٌ من أتباعه التي لم تتحمّل أفعاله المشينة، ولا الدفاع عنها أو حتى تبريرها. أما أحلامه في إقناع الناس بالاشتراك في الانتخابات، والحصول على أغلبيةٍ برلمانيةٍ مريحة، تؤهله لتشكيل حكومةٍ صدرية، فقد تبخّرت بعد أن رأى بأم عينه صوره تمزّق في شوارع النجف وكربلاء، إضافة إلى مدنٍ أخرى. ناهيك عن أن عموم العراقيين قد توصلوا مسبقا إلى قناعةٍ بأن الاشتراك في الانتخابات يعني، لا محالة، التوقيع بالعشرة على شرعيتها أولا، والإقرار بقانونها المعوّج وطائفية لجانها، وانحياز مفوضيتها وتواطؤ المشرفين على صناديقها، والمصادقة مقدّما على نتائجها التي ستكون كلها من حصة الوجوه إياها.
دعوة الصدر إلى ترميم البيت الشيعي عرّت أكاذيبه التي استطاع تمريرها بين الناس، مثل رفضه المذهبية والمحاصصة الطائفية...
أمام هذا الوضع المزري، حاول مقتدى تضميد جراحه، لكنه زاد الطين بلة، "أو جا يكحلها عماها" كما يقول العراقيون، فالدعوة التي أطلقها لترميم البيت الشيعي عبر التوقيع على ميثاق عقائدي، والآخر سياسي، قد عرّت أكاذيبه التي استطاع تمريرها بين الناس فترات طويلة، مثل رفضه المذهبية والمحاصصة الطائفية ومحاربته المليشيات المسلحة والوقحة، ووقوفه ضد الفساد والفاسدين، فالبيت الشيعي الذي دعا إلى ترميمه قام أصلا في عهد الاحتلال، وترأسه العميل الأميركي، أحمد الجلبي، وأقام دعائمه على العمالة والخيانة والفساد والسرقات والقتل من جهة. ومن جهة أخرى، كان أساسه التسويق باسم المذهب، ودعم المليشيات المسلحة التي عاثت بأرض العراق دمارا وخرابا، مثل مليشيا عصائب أهل الحق وحزب الله وربع الله والنجباء ومليشيات دولة القانون ومنظمة بدر، والقائمة في أعضاء البيت الشيعي طويلة، أليس كذلك سيد مقتدى؟
أما الهدف النهائي من هذه الدعوة المذهبية، فينحصر في محاولةٍ بائسةٍ لاستعادة مكانته المتميزة بين هؤلاء وفرض نفسه قائدا لهم، بابتزازهم للوقوف خلفه، على أمل إلحاق الهزيمة بالثورة، وتجنيبهم مواجهة مصيرهم الأسود، خصوصا وأنهم فشلوا، مرّات عديدة، في محاولاتهم إنهاء الثورة. وكان جديدها تلك المحاولة الغادرة التي هاجموا فيها الثوار، بمناسبة احتفالهم بالذكرى السنوية الأولى لانطلاق ثورتهم السلمية، مستخدمين القنابل الحارقة والسكاكين والهراوات والعصي الكهربائية، وغيرها من الآلات الجارحة، على الرغم من أن الثوار حافظوا على سلمية ثورتهم، وشكلوا لجانا تنظيمية تعمل تحت قيادة لجنة عليا، أصدرت توجهياتٍ تدعو أبناء الثورة من أهالي بغداد والمحافظات الأخرى إلى "الانضباط العالي والتعامل الحسن مع كل المتغيرات، والتعاون مع القوات الأمنية في الحفاظ على الأجواء السلمية، وعدم السماح لأحدٍ ممن يريدون تشويهها بالتعدّي على الممتلكات العامة والخاصة، والامتناع عن حمل الآلات الجارحة أو اللثام". بل وذهبت اللجنة إلى أبعد من ذلك، حيث اختارت منطقة العلاوي بجانب الكرخ، خشية الاصطدام بالمندسّين والمسلحين الذين وجدوا في ساحة التحرير في بغداد، وقد التزم الجميع بهذه التوجيهات، على الرغم من اعتداء المليشيات المسلحة على المتظاهرين المحتجّين.
لم تستهن قيادة الثورة بعدوها، على الرغم من هزائمه. ولم تستخف بحجم القوة التي تحاربها مهما بدت ضعيفة
ولكن حكمة الثوار تحدثت عن أمر آخر، بعيدا عن الاحتفال بهزيمة مقتدى ورجال العملية السياسية، حيث اعتبروا ما لحق بهم أسبابا غير كافية لإجبارهم على رفع الراية البيضاء، أو الاستسلام بسهولة. في حين ذهبت قيادات الثورة إلى أبعد من ذلك، إذ اعتبرت مقتدى، على الرغم من هزائمه المنكرة، خطرا قائما، لكن لا بشخصه، فهو رجل أمي بسيط، لا يفقه من أمره شيئا، بل بما يمتلكه من مليشيات مسلحة، لها سجل أسود بارتكاب الجرائم والموبقات من جهة. ومن جهة أخرى، تأييد المحتلين له لوقوفه ضد الثورة، وكذلك تأييد كل أشرار العملية السياسية ومليشياتها المسلحة، ومجاميع المرتزقة وعديمي الذمّة والضمير، الذين يعتاشون على فتات موائد المحتل وعملائه، إما على شكل رواتب تحت مسمّيات الجهاد والنضال، أو هبات أو قطع أراض أو رشاوى. يضاف إلى ذلك جمهور المخدوعين من أبناء المدن الفقيرة الذين انطلت عليهم أكاذيب مقتدى وادّعاءاته بالنزاهة ومحاربة الفساد والعمل على تحقيق مطالبهم المشروعة والمتواضعة.
في المقابل، سبق أن تراجعت مكانة مقتدى، وانحسر تياره، أمام صعود نجم "الحشد الشعبي" والمليشيات الولائية، لكنه تمكّن من العودة طرفا قويا في العملية السياسية، بعد إنقاذها من السقوط على يد الانتفاضة التي توجّهت إلى المنطقة الخضراء، واحتلتها، وأجبرت أعضاء الحكومة والبرلمان على الهزيمة، بطريقةٍ معيبةٍ ومخجلة. حيث استطاع مقتدى ركوب موجتها، وتقدّم صفوفها والتفرّد بتمثيلها والهيمنة عليها، ومن ثم حرف مسيرتها، وتقزيم مطالبها وحصرها بمطالب خدمية متواضعة، وصولا إلى إفشالها، عن طريق نصب خيمته في مدخل المنطقة الخضراء، وإجبار الثوار على الانسحاب منها. واليوم وعلى أرض الواقع، ما زال مقتدى يواصل تغريداته التي تهدف إلى تشويه سمعة الثورة والثوار، من قبيل وصف ساحات الثورة بأنها أماكن للفاحشة والرذيلة والتعرّي والسكر والمخدرات. ووصف الثوار بالكفرة، وكرههم للمرجعية الدينية والتعدّي على الذات الإلهية، تمهيدا لارتكاب الجرائم نفسها. وإلا بماذا نفسّر تهديداته بسفك مزيد من دماء الثوار، إذا أصروا على مواصلة الثورة؟
بعد قيام ثورة تشرين، أصبح عربون الفوز بمنصب رئيس الوزراء التعهد بإنهائها
بمعنى آخر وباختصار شديد، لم تستهن قيادة الثورة العراقية بعدوها، على الرغم من الهزائم التي لحقت به. ولم تستخف بحجم القوة التي تحاربها مهما بدت ضعيفة، بل يعد الثوار العدة لدخول معركتهم الفاصلة التي لا يقبلون فيها بغير الانتصار، وشعارهم في ذلك "إما وطن أو كفن". ويدل تقييم قيادة الثورة هذه المخاطر، والاعتراف بها، على وعي كبير، وخبرة عالية، بكيفية إدارة معركة الثورة ضد أعدائها، وإن الانتصارات التي حققتها ليست سوى تمارين قبل الدخول في المعركة الفاصلة، خصوصا وقد وضعت قيادة الثورة بدقة عوامل الانتصار موضع التطبيق، وأهمها رفض الاستسلام، وشطب كل فكرةٍ تؤدّي إلى تقديم تنازلاتٍ على حساب ثوابت الثورة وأهدافها، وشعارهم في ذلك "إما كفن أو وطن"، واجتثاث جميع المقولات التي ظاهرها الحق وجوهرها الباطل، من عقولهم، مثل السياسة فن الممكن، أو التصرّف بالعقل وليس العواطف، أو الخضوع للابتزازت المستمرة من القوة المحتلة والحكومة العميلة، بل أصبحت تلك المقولات، بالنسبة لثوار تشرين، في خبر كان، لأنها أصبحت تتعاكس مع ثوابت الثورة الوطنية من جهة، وقدرة الشعوب على انتزاع حقوقها مهما بلغ أعداؤها من قوة وبأس من جهة أخرى.
هذا ليس استنتاجا من كاتب هذه السطور، وإنما كان جوابهم على رئيس وفد الحكومة الذي طالبهم برفع الخيم من ساحة الحبوبي، وفض الاعتصام مقابل وعودٍ بتحقيق مطالبهم. وفي هذه المناسبة، لا أذيع سرّا، أن الثورة لم توظف بعد كل ما لديها من مواطن القوة، ومن رباط خيلها ترهب به أعداءها وأعداء الله. وإذا حدث وجاء اليوم الموعود، سترون قوة أبطال ثورة تشرين، وترون، في المقابل، كيف ستضيق أرض العراق بهؤلاء الأشرار، وهزيمتهم مذعورين، طلبا للنجاة بجلودهم. أما مقتدى الصدر فسيكون حظه كبيرا، إذا تمكّن من الهروب وقضاء بقية حياته في مدينة قم الإيرانية.