مجزرة الحقيقة في غزّة
حساب المجازر يتوالى يومياً، وبأعداد مرعبة تتسارع في الأخبار كل لحظة، وتتغير ليزيد معها الوجع والألم، لعجز دول العالم وكبرى مؤسسات القانون الدولي ومحاكمه عن فعلٍ قويٍّ يوقف نزيف الدماء وجرائم قتل الأطفال والنساء والتدمير الهمجي للسكن والمستشفيات والمدارس والجوامع والكنائس، أمام هذا المشهد المأساوي من الدمار، لا يُرى إلا معنى الإبادة لما يقوم به جيش الاحتلال الصهيوني ويغتبط له رئيس الحكومة ووزيراه المفضّلان الذين يحلمون بأموال تدرّها مشاريع تجارية وسياحية في غزّة، والنية الفعلية كما يصفها القانون الدولي لإبادة الفلسطينيين وكل ما يتعلق بحياتهم على أرضهم.
يوميا منذ أزيد من أربعة أشهر، يرى العالم لأول مرّة، بالبثّ الحي والمباشر على شاشات القنوات والهواتف مجزرة الصحافيين الفلسطينيين على يد جيش الدولة العنصرية اللاأخلاقي. وليس استهداف الصحافيين والإعلام الذي يغطّي جرائم الاحتلال جديداً، إنه الاستهداف الأوسع لهذا العدد الهائل والمرعب من الصحافيين والإعلاميين وعوائلهم وتهديدهم بالاسم، فطالما اقترفت دولة الاحتلال جرائم القتل والترهيب ضد كل من ينقل الحقيقة ويوثّق جرائمها ويفضحها في الإعلام للحفاظ على صورتها "ديمقراطية" وصاحبة "أعلى" مظلومية عرفتها الإنسانية. فقتل مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين، شيرين أبو عاقلة، كان مبيّتاً، وكان اغتيالاُ بشهادة هيئات ومنظمّات أممية مختلفة، بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي خلصت إلى أن أبو عاقلة قتلت برصاصات تبدو مستهدفة، وأن القتل المتعمّد في هذه الحالات يرقى إلى الإعدام خارج نطاق القضاء، وهو انتهاك صارخ للحقّ في الحياة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.
من الواضح أن تصفية الصحافيين في غزّة هي من خُطط إعلام الحرب الحكومي وقرارات المؤسّسة العسكرية ومسؤوليها باغتيال وإبادة كل من ينقل ويوثّق حقيقة ما يجري على الأرض، وما حصل للصحافي وائل الدحدوح الذي وصفه المشاهدون بحقّ بالجبل، وعائلته ومراقبة هاتف ابنته وتهديدها واستهداف واغتيال عائلته، واغتيال أكثر من 130 صحافيا، بعضهم مع عوائلهم، ما هو إلا مجزرة واضحة موثّقة للصحافيين العاملين على أرض غزّة. ولإتمام الإبادة التي ينفذونها، يردّد قتلة الاحتلال بضرورة إغلاق مكتب الجزيرة، لأنهم لا يرغبون بوجود كاميرات ولا صحافيين ومراسلين ينقلون أحداث هذه الإبادة، فلم ينس الكيان الصهيوني ولا أتباعه الآثار المدمّرة على صورته بسبب فيديو قتل الطفل محمد الدرّة خلال الانتفاضة الثانية، ولم يغفروا للصحافي الإسرائيلي شارل أندرلن فرنسي الجنسية مراسل القناة الفرنسية الثانية ولا لمصوّره الفلسطيني طلال أبو رحمة التقرير الصحافي الذي بثّ حينها وشاهده الناس في العالم، وهو ما جعلهم يمنعون، منذ بداية الإبادة الجارية في قطاع غزّة، دخول أي مراسل وصحافي أجنبي إلى غزّة وفلسطين، ما عدا من يعمل معهم ويردّد أكاذيبهم ويدعم سرديّتهم وقصصهم الزائفة التي تلقى في بعض الدول وإعلامها صدىً بسبب وقوف الحكومات مع دولة الاحتلال ووجود لوبيّات ومجاميع إعلامية من أتباع حزب الليكود، رأت النور وفتحت لها الأبواب بالتحديد، بسبب التأثير الواسع لصورة محمد الدرّة وللدعم والتأثير الكبير للجاليات العربية في أوروبا التي أسست جمعيات كثيرة لدعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
لحسن حظ الحقيقة أيضاً وجود إعلام اليوتيوب الملتزم الذي فسح المجال لكل من يرفُض الهيمنة على الخطاب الإعلامي وأحاديّته
فجأة، نسيت البلدان الأوروبية التي بقيت تردّد، منذ الحرب العالمية الثانية، بشأن المحرقة ما تعلمته أجيال لها في المدارس والجامعات جملة "أبدا لن يحدُث هذا" التي اختفت من الخطاب السائد ولم يبق لها معنى في "غزّة الشهيدة" لدى بعض الأحزاب السياسية والنخب التي تتحكّم بالرأي العام وتقرّر اتجاهاته ومواقفه، فسارت النائبة من أقصى اليمين الفرنسي المتطرّف الفرنسي المعروف بكراهيته لليهود والعرب، مارين لوبان، في تظاهرة لدعم دولة الاحتلال مع نواب محكومين بموجب القانون "بتهمة معاداة السامية" جنبا إلى جنب مع أعتى الصهاينة المدافعين عن حكومة التطرّف والمستعمرين المجرمة. ودعت الرئاسة الفرنسية إلى تأبين من قتل في أحداث غزة من الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الفرنسية بحضور مجلس المؤسّسات اليهودية، وقام نائب من مزدوجي الجنسية ومن المقرّبين لرئيس الوزراء نتنياهو في أثناء المراسيم وأمام الطبقة السياسية والكاميرات بالاعتداء اللفظي على أحد نواب حزب فرنسا الأبية، بسبب موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، وإعلان الحزب أن ما يجري في غزّة هو إبادة للشعب الفلسطيني على يد حكومة متطرّفة. وفي المراسيم، دعا الرئيس ماكرون الذي تطوّر موقفه في الشهور الأربعة الماضية من الداعم كليا لحكومة اليمين المتطرّف في دولة الاحتلال إلى اعتبار كل الضحايا متساوين، لكن هذا الموقف لم يمنع وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيغورنيه، من القول إن اتهام إسرائيل بالإبادة تجاوز أخلاقي، ما يدلّ، بشكل قاطع، على أن الوزير لم يشاهد صور غزّة المدمرة شبرا شبرا، ولا جثث الأطفال المصفوفة بالعشرات والمعدّة للدفن في مقابر جماعية، ولا صور المستشفيات المستهدفة بالقصف، ولا مجزرة الأطباء ولا الصحافيين، ولا منْع أصدقائه في الكيان الصهيوني إدخال المؤن والأغذية والأدوية التي يحتاجها أكثر من مليون وربع المليون من أهل غزة المجوّعين حدّ الموت، لأن الإعلام الفرنسي يمتنع عن إظهار صور غزّة ويغطي القليل من كل ما يحدث.
لقد أظهر تحقيق أجراه موقع "آريه سور إيما" الفرنسي المعني بما يبثه الإعلام أن القناة الفرنسية الثانية، وهي حكومية، تخصّص للجاري في غزّة خمس دقائق فقط من 29 ساعة من نشراتها الإخبارية، وأنها تختار وقت بث الأخبار بحسب الوقت "المناسب" لنهجها، أي حسب عدد المشاهدات، فهي تنقل أخبار الاحتلال في نشرات منتصف النهار التي تحصد أكبر المشاهدات، وتترك أخبار غزّة للمساء وتمتنع عن إظهار أي صور لما يحدُث. ولحسن حظ الحقيقة، مصداقية الإعلام الفرنسي ربما هي الأقل والأسوأ بين الدول الأوروبية ومنذ سنوات وربما بضعة عقود، بحسب هيئات الاستطلاع الرسمية. وبسبب هيمنة رأس المال وتحكّمه بالمحتوى الصحافي، فإن عدة صحافيين لا يزالون يحترمون أخلاق المهنة والقيم الإنسانية، ويترفّعون عن أن يكونوا مجرّد موظفين لدى هذا الملياردير أو ذاك، تركوا العمل في القنوات المملوكة من الأغنياء، واتجهوا إلى قنوات اليوتيوب وغيرها التي لا تزال تسمح بنوع من حرية الكلام، ولا يزال لها هامش من الديمقراطية الذي ضاق كثيراً مع وصول نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة عام 2007 وأخذ بالانحسار شيئاً فشيئاً، ومنهم من أسّس صحفا إلكترونية مدفوعة يخاف أصحابها أقلّ من غيرهم من نشر ما يتعلق بفلسطين وأحداث وصور غزّة اليوم. ومع ذلك، لا يتمكّن هؤلاء إلا من نشرٍ محدود أحياناً، لأنهم يخافون الشيطنة والاتهام بمعاداة السامية وتخريب مشاريعهم الصحافية إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء الكثيرة. لحسن حظ الحقيقة أيضاً وجود إعلام اليوتيوب الملتزم الذي فسح المجال لكل من يرفُض الهيمنة على الخطاب الإعلامي وأحاديّته وتنوع تناول مواضيعه المهمّة بخطاب مختلف وملتزم وإنساني بعيد عن تجار الإعلام والحلقات القريبة من دولة الاحتلال. ومن منصّاته نقلت أخبار غزّة وما يحدُث، نقلت جلسات محكمة العدل الدولية التي امتنع الإعلام الرسمي وغيره في فرنسا من نقلها، باستثناء نقل مرافعات الجانب الإسرائيلي، وبثّت قنواتٌ كثيرةٌ تحظى بمشاهداتٍ واسعةٍ أفلاماً عن معاناة الغزيين، وعن تاريخ فلسطين وسرقتها وتقسيمها، وأفلاماً عن تهجير الفلسطينيين وإجرام العصابات الصهيونية منذ وضع أقدامهم في أرضها، كما بثت بشكل منتظم مقابلات للحديث بشكل موضوعي وحقيقي لما يجري، مع نخب أكاديمية وجامعية ومحامين وسياسيين وناشطين، مثل المحامي جيل دوفير والأستاذ في علم الاجتماع برتراند بادي وروني برومان الرئيس السابق لمنظمة أطباء بلا حدود المولود في القدس، والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني.
القناة الفرنسية الثانية، وهي حكومية، تخصّص للجاري في غزّة خمس دقائق فقط من 29 ساعة من نشراتها
ومع عودة وفد حزب فرنسا الأبية والأحزاب المتحالفة معه من رفح المصرية، تحدّث رئيس الوفد، النائب إيريك كوكرل، عن مشاهداته في معبر رفح وامتناع الجانب الصهيوني عن إدخال المساعدات إلى غزّة واستهداف المستشفيات المتعمّد وتدميرها وقتل الكادر الطبّي والصحافي وإحالة القطاع إلى مكان غير قابل للعيش، ما يؤكّد وجود نيات الإبادة، وأكّد مجدّداً على الطلب من الرئيس ماكرون بإيقاف الحرب حالاً. كذلك استحلف المرشح الرئاسي السابق، جان لوك ميلانشون، الذي استمع إلى الشهادة المؤثرة للدكتور رافائيل بتي العائد من خانيونس، الأحزاب بقوّة، وطلب منها نسيان السياسة، والعمل على إيقاف معاناة الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأجدادهم، وإنقاذهم، ودعا جميع العاملين في الموانئ وعلى البواخر وفي المعامل إلى رفض تصدير الأسلحة وعدم نقلها لخدمة نتنياهو ليقتل بها، لأنهم سيكونون قتلة أو مشاركين بالقتل، وأكّد أن فعلا كهذا فرصة لوقف الحرب، وأن هناك إمكانية لإيقافها "وإذا لم نفعل ذلك فنحن متواطئون بالقتل". وقد حظيت شهادات الوفد الطبي الفرنسي، برئاسة الطبيب العسكري رافائيل بتي والأطباء السبعة والممرّضة إيمان المرافقين له، من غزّة، بمشاهدات واسعة عدّت بالآلاف، وفي وقت قصير، فكانت صوتا مهمّا وشهادة لا تبثّ في الإعلام المساند للسردية الإسرائيلية.
ورغم تلقف عدة برامج تلفزيونية شهادات الطبيب رافائيل وبعض زملائه الأطبّاء والممرّضة إيمان التي أثرت شهادتها بشكل واسع، لأنها روت تجربتها الفريدة مع أهل غزّة، حيث قالت إنها رأت الإنسانية في غزّة رغم كل ما يعانيه الناس من أهوال. وبسبب هذه الشهادات، لم ينجُ هذا الوفد الطبّي من المحاولات الخبيثة لصحافيين أرادوا زعزعتهم بسبب حديثهم عن "مقاومة الشعب الفلسطيني" الذي لا يعجب صحافيي الإعلام المهيمن، لكن غالبية تعليقات المتابعين والمشاهدين على شتى المواقع كانت لهم بالمرصاد تردّ الصاع صاعيْن.
لقد سجّل الدكتور رافائيل بتي الذي عاد متأثرا جدا من تجربته في غزّة، ولم يتمكّن وهو يتحدّث من منع دموعه، سجّل بشكل مستقل شهادته للرأي العام وللتاريخ والعالم في فيديو على "يوتيوب"، يحذر فيه من خطط الاحتلال في رفح ومن الكارثة التي تنتظر سكان غزّة، داعيا فرنسا إلى وقف مساعداتها المالية والعسكرية لدولة الاحتلال، والعمل على إيقاف النار حالا.