محاولة لفهم انحياز ألمانيا الأعمى مع إسرائيل
بعد مرور أكثر من 50 يوماً على حرب الإبادة الشاملة التي تقوم بها إسرائيل بحقّ قطاع غزّة، وعلى الرغم من التحوّلات التي بدأت تظهر على مواقف الحكومات الأوروبية (إسبانيا، بلجيكا،...) والمتمثّلة بالدعوات إلى إيقاف الحرب، إلا أنّ موقف الحكومة الألمانية الذي اتخذته بعد 7 أكتوبر ما زال على حاله من انحياز أعمى لإسرائيل، ودعم غير محدودٍ لها، وتبرير غير منطقي لممارساتها العدوانية والوحشية، فما الذي يفسر هذا الموقف؟
تتّصف علاقة ألمانيا بإسرائيل بخصوصيةٍ أملتها عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية ونفسية. ولفهم طبيعة هذه العلاقة، المعقدة والمركبة، لا بد من العودة إلى ظروف نشأتها وسياقات تطوّرها والأحداث التي رافقتها وأثّرت بها.
أدّت ممارسات ألمانيا النازية المعادية لليهود إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين. وفي عام 1933، وقّعت ألمانيا النازية مع الوكالة اليهودية اتفاق "هعفراه" (الترانسفير) الذي يقضي بالسماح لليهود الألمان المهاجرين إلى فلسطين بأن يأخذوا معهم جزءاً من أموالهم، شرط إيداعه في حساب بنك ألماني مغلق، واستعماله في شراء معدّات زراعية ألمانية تصدّر إلى فلسطين. الأمر الذي ساهم في تشجيع هجرة اليهود، وفي الوقت نفسه، إنعاش الاقتصاد الألماني الذي كان يعاني الركود بسبب الأزمة التي أصابت الاقتصاد العالمي في 1929. في مقابل ذلك، سادت في تلك الفترة أوهام لدى عربٍ كثيرين، أن ألمانيا ليست لها مطامع استعمارية في المنطقة العربية، كما هو الحال بالنسبة لبريطانيا وفرنسا وغيرهما، وأنها يمكن أن تكون حليفاً للعرب في الصراع مع المشروع الصهيوني؟! من أجل تكريس تلك الأوهام وكسب تأييد العرب، فقد حرصت الحكومة النازيّة على عدم إظهار تأييدها العلني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مع مراعاة عدم استفزاز بريطانيا، طمعاً بوقوفها على الحياد في الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في عام 1939 وانتهت في 1945 بهزيمة ألمانيا النازية. إذن، أدّت جرائم النازية بحقّ اليهود إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين، ما ساهم في تمهيد الطريق لقيام إسرائيل واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم في 1948.
تتّصف علاقة ألمانيا بإسرائيل بخصوصيةٍ أملتها عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية ونفسية
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية مهزومة، مدمّرة. يجثم على صدرها حملٌ أخلاقي ثقيل بسبب الجرائم التي ارتكبتها النازيّة بحقّ اليهود. وللتحرّر من هذا العبء، وبضغط من حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم أميركا، وقعت ألمانيا الغربية (في 1949 قسّمت ألمانيا إلى شطرين، شرقي يتبع المعسكر "الاشتراكي" وغربي يتبع المعسكر الرأسمالي) في عام 1952 في لوكسمبورغ على اتفاقٍ يقضي بدفع تعويضات بمليارات الماركات الألمانية لإسرائيل على شكل بضائع وخدمات لمدة 12 عاماً. وكان دافع الاتفاق، كما عبّر عنه المسؤولون الألمان، هو الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن المعاناة (الهولوكوست) التي لحقت باليهود على يد النظام النازي. واستمرّت ألمانيا بتقديم التعويضات لإسرائيل إلى ما بعد انتهاء مدة الاتفاق (بحسب تقديرات وزير المالية الألماني، إليكس مولر، تجاوزت قيمة التعويضات التي قدّمتها الحكومة الألمانية لإسرائيل 30 مليار مارك حتى 1977).
ولكن إعادة انطلاق الاقتصاد الألماني كان يتطلب تأمين احتياجاته من نفط ومواد أولية وأسواق. ولمّا كانت الدول العربية أحد المصادر المهمة على هذا الصعيد، وسوقاً واعداً لتصريف المنتجات، وتفادياً لاعترافها بالشطر الشرقي من ألمانيا، فقد حرصت ألمانيا الغربية على بناء علاقات متينة مع الدول العربية، وأن لا يؤثر دعمها إسرائيل على هذه العلاقات. إذن، يمكن القول إن ألمانيا الغربية قد بنت موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي على أساس المحافظة على علاقاتٍ جيدة مع طرفي الصراع، مع انحيازٍ واضح لإسرائيل، وعزل ألمانيا الشرقية، ومراعاة مصالح الشركاء (أميركا وأوروبا).
وبينما سعت ألمانيا الغربية من خلال اتفاق 1952 وتقديم الدعم لإسرائيل إلى إعادة رسم صورتها على الساحة الدولية، وتعزيز حضورها دولة تخلّصت من شوائب النازية، استفادت إسرائيل من ذلك الاتفاق والدعم من أجل تطوير بنيتها التحتية الاقتصادية (الطاقة الكهربائية، الطرق ووسائل المواصلات، شبكات الري، الموانئ والنقل البحري، المصانع والمعدّات الزراعية والتجهيزات الطبية ...) وزيادة قدراتها العسكرية. وعلى الرغم من تبنّي ألمانيا سياسة عدم إرسال الأسلحة إلى مناطق النزاعات، إلا أنها زوّدت إسرائيل بأسلحة كثيرة متطوّرة، وساهمت في الصناعة النووية الإسرائيلية، مع حرصها على إبقاء ذلك سرّاً، تجنّباً لردود الفعل، الداخلية منها والخارجية، لا سيما منها العربية.
صحيح أن ألمانيا ما زالت تعلن تمسّكها بالقرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وبحلّ الدولتين، إلا أنها ما زالت تفتقد القدرة على تحويل المواقف النظرية إلى أفعال
وعلى الرغم من العلاقات الوطيدة بين إسرائيل وألمانيا الغربية، تأخّر الإعلان الرسمي عن إقامة العلاقات الديبلوماسية بينهما حتى 1965، ويفسر ذلك بحرص الألمان، كما أشير أعلاه، على عدم استفزاز الدول العربية، وعدم دفعها للاعتراف بألمانيا الشرقية (الأمر الذي حصل في عام 1969، حيث اعترف بها كل من العراق والسودان وسورية ومصر وليبيا). وبالفعل، ققد قوبل ذلك الإعلان بقطع العديد من الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية، (لكن في عام 1972 قررت الجامعة العربية أن لكل دولةٍ عضو فيها حرية اتخاذ القرار في إعادة العلاقة مع ألمانيا الغربية وبدأت هذه العلاقات بالعودة تباعاً).
أما إسرائيل، فقد استمرّت في سياسة ابتزاز ألمانيا، مستفيدة من دعم أميركا اللامحدود لها، ومن أجواء الحرب الباردة، وهواجس ألمانيا الغربية من جيرانها "الاشتراكيين". وقد عبّر ساسة ألمان عديدون عن امتعاضهم من ذلك، منهم السفير الألماني في إسرائيل، رولف باولس، الذي علق على إعلان قيام علاقات دبلوماسية بين البلدين بالقول "علينا أن نوضح للإسرائيليين أننا سنعيد النظر في واجبنا الأخلاقي الذي يناشدوننا به بشكل مستمرّ؛ فهم يقولون الأخلاق، ولكنهم يقصدون المال، وهم غير جاهزين لتخفيف العبء، ولو جزئياً، عن كاهلنا لقاء مساعدتنا لهم". وفي 5 يونيو/ حزيران 1967، سأل المستشار في وزارة الخارجية ألكسندر بوكر "إلى متى سنستمر في دفع هذه الجزية؟".
ألمانيا الغربية، وعلى الرغم من انحيازها لإسرائيل، وتزويدها بالسلاح خلال حربي يونيو 1967 وأكتوبر 1973، كانت لديها رغبة قوية في التحرّر من وطأة ماضيها النازي، والانعتاق من طوق "الهولوكوست
لقد بدا واضحاً أن ألمانيا الغربية، وعلى الرغم من انحيازها لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي، وتزويدها بالسلاح خلال حربي يونيو 1967 وأكتوبر 1973، كانت لديها رغبة قوية في التحرّر من وطأة ماضيها النازي، والانعتاق من طوق "الهولوكوست". وانطلاقاً من إدراكها أن الأمن والاستقرار في المنطقة العربية هو الضمانة لتحقيق مصالحها، أيّدت القرار 242 الذي أصدره مجلس الأمن في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، والقاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران. ولمّا كانت ألمانيا الغربية تستورد حوالي 70% من نفطها من الدول العربية، وبعد استخدام العرب سلاح النفط في حرب أكتوبر 1973 وارتفاع أسعاره، وفي ظل تصاعد موجات اليسار الألماني، لا سيما في صفوف الشباب والطلاب، المؤيدة للفلسطينيين، فقد تعزّزت قناعة ألمانيا الغربية بأن مصلحتها تقتضي تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة العربية وتجنيبها الحروب. وبالتالي، ضرورة إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية يقوم على مبدأ حلّ الدولتين. وانطلاقاً من ذلك، أصبح ما أعلنه وزراء خارجية المجموعة الأوروبية في 1974 بخصوص النزاع في الشرق الأوسط، والذي يدعو إلى عدم جواز السيطرة على الأراضي بالقوة وتبنّي القرار 242 ومراعاة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أساساً للسياسة الخارجية لألمانيا. وفي عام 1980، أصدرت ألمانيا مع المجموعة الأوروبية "إعلان البندقية" الذي أكد حق تقرير المصير للفلسطينيين، وطالب بإشراكهم في إيجاد حل سلمي، وكان رد فعل إسرائيل رفض الإعلان، والطلب من ألمانيا التراجع عنه.
في عام 1990، وفي سياق التحوّلات الدراماتيكية التي شهدها "المعسكر الاشتراكي"، وأدّت، في النهاية، إلى انهياره، جاء توحيد شطري ألمانيا، ليعلن بدء انطلاقة جديدة لها على الصعيدين الأوروبي والعالمي، لا سيما بعد زوال خطر جيرانها "الاشتراكيين" الذين لطالما ابتزّت بسببهم من حلفائها. وقد عبّرت إسرائيل (بلغ مجموع ما تلقّته من مساعدات ألمانية حوالي مائة مليار مارك ألماني) عن هواجسها من تلك الوحدة التي ستجعل من تقديم المساعدات لشطرها الشرقي أولوية بالنسبة لألمانيا الموحّدة.
ظنّت ألمانيا أن سياستها التي أطلق عليها "دبلوماسية الشيكات"، أي تمويل حروب الحلفاء من دون المشاركة العسكرية المباشرة فيها، سوف تنتهي مع نهاية الحرب الباردة، وزوال أسباب التوتر وعدم الاستقرار في العالم. ولم تكن تعرف أن حرب الخليج (تحرير الكويت) ستكون بانتظارها وبانتظار دفتر شيكاتها في 1991، أي بعد أقلّ من عام على إعادة توحيدها، إذ تحمّلت ألمانيا ثلث تكاليف تلك الحرب (بلغت قيمة الأسلحة والمعدّات العسكرية لوحدها 3.3 مليارات مارك ألماني). كان من مفارقات تلك الحرب استخدام الإسرائيليين أقنعة ألمانية للوقاية من الصواريخ العراقية التي ضربت إسرائيل، والتي كانت ألمانيا قد ساهمت في تطويرها! واسترضاءً لإسرائيل التي تتقن فن الابتزاز، قدّمت ألمانيا لها معونةً تجاوزت المليار مارك كانت من ضمنها أسلحة متطوّرة.
قطار التكفير عن جرائم ألمانيا النازية بحقّ اليهود، الذي انطلق منذ 70 عاماً، لم يصل بعد إلى محطته الأخيرة
مع ذلك، تدرك ألمانيا جيداً أن مصلحتها كانت وما زالت، تقتضي، حلّ الصراعات بالطرق السلمية واستبعاد الحروب. وأن دبلوماسية الشيكات التي كلفتها أموالاً طائلة قد أُجبرت عليها، وكانت حلاً لعدم مشاركتها في الحروب. لذلك، كانت ألمانيا قد رحّبت باتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات مع إسرائيل في 1979. ومن ثم أيدت اتفاقيات أوسلو في 1993، وفتحت مكاتب تمثيلية لها في مناطق السلطة الفلسطينية التي تعتبر ألمانيا أكبر المانحين لها. كما أعلنت ترحيبها باتفاق أبراهام بين إسرائيل والإمارات وما تلاه من اتفاقات، معتبرة إياها فرصة للتحقيق السلام.
حجم المصالح بين الدول العربية وألمانيا كبير، إذ وصلت قيمة التبادل التجاري بينهما في عام 2019 إلى 44 مليار يورو، بينما قيمة التبادل التجاري بين ألمانيا وإسرائيل حوالي ستة مليار يورو، فالنفط العربي يغطي 30% من احتياجات ألمانيا. ومن المرجّح أن الطلب عليه وعلى الغاز قد ارتفع بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، لكن الأنظمة العربية لم تستخدم ذلك أوراق ضغط على الحكومة الألمانية. صحيح أن ألمانيا ما زالت تعلن تمسّكها بالقرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وبحلّ الدولتين، إلا أنها ما زالت تفتقد القدرة على تحويل تلك المواقف النظرية إلى أفعال. كما أن أميركا، الداعم لإسرائيل بلا حدود، كانت، وما زالت، الدولة الأقوى في العالم التي لا يمكن لألمانيا أن تتجاوزها أو تتجاهل مواقفها.
صحيح أن نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا، وتعاظم قوتها الاقتصادية، قد أعطى لألمانيا استقلالية كبيرة عن أميركا، في السياسات واتخاذ القرارات، إلا أن الهيمنة الأميركية على العالم ما زالت تفعل فعلها في الحدّ من تلك الاستقلالية، فإذا أضفنا إلى ما سبق أن قطار التكفير عن جرائم ألمانيا النازية بحقّ اليهود، الذي انطلق منذ 70 عاماً، لم يصل بعد إلى محطته الأخيرة، أمكننا تفسير انحياز الحكومات الألمانية المتعاقبة لإسرائيل، وعدم وقوفها، أقله، على الحياد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.