محمد كريشان يروي التفاصيل
كان محمد كريشان في نحو السادسة والعشرين لمّا نشر، في 1985 في صحيفة أسبوعية تونسية مستقلة، كان يعمل فيها، تقريرَه بعنوان "إسرائيل تخطّط لضرب القيادة الفلسطينية في تونس"، وبعد أسبوع تفعل إسرائيل هذا بالضبط. لم يكن بصّارا كما قارئة الفنجان في قصيدة نزار وأغنية عبد الحليم، وإنما صاحب فراسَةٍ في الموضوعة الفلسطينية التي كانت في شبابه الأول، وما زالت، من أهم شواغله. يُخبر مذيع "الجزيرة" الشهير قرّاء كتابه الصادر أخيرا "محمد كريشان يروي .. وإليكم التفاصيل" (جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2021)، بتلك الواقعة، واحدةً من مروياتٍ غزيرةٍ، يجمع كثيرٌ منها بين المؤانسة والإمتاع (عذرا أبا حيان التوحيدي)، بين جاذبية السرد وليونته، بين بساطة اللغة وإيحاءاتها، الذكية أحيانا كثيرة، والنابهة غالبا، والماكرة في غير موضع. وقد ساهمت هذه المزايا (وأخرى غيرها)، الحاضرة في الكتاب الذي زادت صفحاته على الأربعمائة، في أن ينشدّ القارئ إلى "التفاصيل" التي تجري روايتُها بإيقاعٍ ومزاجٍ رائقيْن، فقد تتابعت حكاياتٌ ومفارقاتٌ شائقةٌ عن مواقف وأسفار وتجارب ومطبّات ومآزق ونجاحات، في غير محكّ، في غير صحيفةٍ ومجلةٍ وإذاعةٍ وتلفزيون، ومع رؤساء ووزراء ومسؤولين ومدراء وأعلامٍ في غير بلد، قبل العمل في "الجزيرة" منذ 25 عاما وفي أثنائه. وإذا أراد كريشان في مسروداته أن يبسُط تجربته في مزاولته الصحافة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، منذ نحو أربعين عاما، فإنه أيضا أفاد بكثيرٍ مما يُنبئ عن حال السلطة في العالم العربي ومنظوراتها إلى الإعلام. وأخطَرنا بمشهدياتٍ لها نفعُها في التعريف بطرائق الأداء والتفكير، السياسي والإعلامي، الفلسطينية والتونسية والخليجية مثلا.
يحضُر الشخصيّ المحض عابرا في المسار الذي تجري فيه الوقائع المتحدّث عنها في سبعة فصول. من ذلك أن كريشان عندما "يفصّل" للقارئ عن صلته الخاصة، العتيقة، بالشأن الفلسطيني، يأتي على حديث والدِه لوالدته، مرّةً، عن رغبته في الالتحاق بالفدائيين الفلسطينيين، وعندما تستهجن الوالدة هذا، وتسأل زوجها الكهل عمّ سيفعل لهم، يجيبُها بأنه يمكنه أن يساعد في تقشير البطاطا لهم. تابع زميلُنا، بصفته الصحافية، اجتماعاتٍ فلسطينيةً عديدة في تونس، ومؤتمرات للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر وعمّان، وكان على متن طائرة ياسر عرفات إلى واشنطن عند توقيع "أوسلو" في 1993، وحاور زعاماتٍ وفاعلياتٍ فلسطينية. ويكتب إنه لم يكن يخطُر له الحصول على تأشيرة إسرائيلية لزيارة فلسطين، وفي إحدى مرّات زياراته، يضطرّ لأن يتسلّم هذه التأشيرة، بشخصه، في السفارة الإسرائيلية في عمّان، ويتورّط في "دردشةٍ" مع مسؤول فيها عن حل الدولة الواحدة (!). يحاور على شاشة "الجزيرة" إيهود باراك، ولولا "تفاصيل" طويلة، لأنجز محاورةً مع شارون، ألغاها الأخير قبل دقائق من موعدها. يدافع عن فكرة مقابلتهما، ويكتب إنه "هزم" باراك. وقد فات على صاحبنا هنا أن الإسرائيلي لا يعنيه انتصارٌ على شاشة فضائية عربية، وإنما يهمّه قبولُه طبيعيا على هذه الشاشة. وكان حسنا من كريشان أنه عرض "مرافعته" عن وجهة نظره من دون تعصّب، ولا تمسّك "عقائدي" بها.
ليس من "تفاصيل" خلافية في الكتاب سوى هذه ربما، وليس من ملاحظاتٍ كبرى عليه، وإنْ ثمّة هناتٌ هيّناتٌ قليلات، وإنْ كان طيّبا من الصديق الحصيف، لمّا سرد "تفاصيل" عن مقابلاته في "الجزيرة" مع محمد حسنين هيكل، لو جاء على نقصانٍ حادّ لدى الكاتب والصحافي، الكبير حقا، بشأن حقوق الإنسان ووجوب الديمقراطية في العالم العربي، ولعلّ هذا ما يفسّر غياب الحساسية فيه لمّا ارتدّت مصر عن تمرينها الديمقراطي، ثم ارتُكبت انتهاكاتٌ مريعةٌ، صمت عنها الرجل.
إنما هي أعلاه نتفٌ شديدة الإيجاز، مما حفل به كتابٌ احتشدت فيه تفاصيل عن شابٍّ غادر إلى بغداد لدراسة القانون، باللغة العربية، رفضا لدراستها بالفرنسية في بلده، لكنه يعود بعد 12 يوما، ليلتحق في دراسة الإعلام، يعمل، في وقت مستقطع، في بدّالة الهاتف في صحيفةٍ محلية، قبل أن يعمل "مجانا" في جريدة أخرى، ثم يصير من أركانها، وتكون أولى عتبات مساره المهني الطويل. يشتغل مراسلا لصحيفةٍ سعودية، يتعطّف عليه طارق عزيز بورقة وقلم ليكتب ما يأخذه من تصريح بعد أن خذله المسجّل. يسافر في مهمات في ليبيا ومصر وغيرهما. يعمل مقدّم برنامج إذاعي ينال عنه جائزة يتسلّمها من الرئيس بن علي، ويعمل بعض وقتٍ في "رويترز" و"إم بي سي" وغيرهما. ينتقل إلى لندن للعمل في تلفزيون "بي بي سي" العربي، ثم تكون الانتقالة، بعد سنةٍ وشهور، إلى "الجزيرة" عند تأسيسها، فتستجدّ "تفاصيل" يعرفها المشاهد العربي عن محمد كريشان على الشاشة، لكن التفاصيل التي تُروى بأنفاس ساردٍ مثقفٍ أكثرُ ثراءً في الكتاب.