محمود موسوي مجد
معروف أن السينما الإيرانية عظيمة وشديدة الواقعية، بينما السياسة الإيرانية في النسخة التي يقدمها حكام هذا البلد، الموغل في التاريخ، فائقة السوريالية. والسينما عموماً، بما أنها فنّ، فإنها غير محبوبة من حكام طهران، وهي تتحوّل إلى عدوّ للأمة كلما صارت واقعيتها تكشف ديناميات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية، لا مصلحة عند السلطة في الكشف عنها. ولو كان الأمر بيد السلطة تلك، لكانت أقفلت باب السينما من أساسه، لعل المنتجين والمخرجين يكتفون بتطوير ما يطرحه خطابها وإعلامها من مادة أولية لدراما تفتقر لكل ما يتصل بعالم الإبداع والفن السابع على شاكلة قصة محمود موسوي مجد. ومجد هو شاب إيراني مقيم مع عائلته في سورية منذ عقود، أعلنت السلطات القضائية إعدامه صباح يوم الاثنين بتهمة التجسس لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل، والمساعدة على تحديد موقع الجنرال قاسم سليماني لاغتياله في يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، في مقابل تقاضيه مبالغ مالية. هذه رواية السلطة القضائية التي جهد المتحدث باسمها غلام حسين إسماعيلي في إقناع من يهمه الأمر بها. لكن للرواية الإيرانية الرسمية تتمات ومنطلقات تنسف النسخة الأولى من أساسها من دون أي شعور بالحرج، فمجد معتقل منذ العام 2018، أي قبل عامين من اغتيال سليماني مطلع 2020، بحسب قناة العالم، الإيرانية الحكومية طبعاً. ووفق القصة تلك، امتدت فترة تعامله من عام 2013 حتى 2017، أي أن التعامل العتيد توقف قبل عام من تاريخ غارة مطار بغداد الشهيرة. أما مضبطة الاتهام التي وجب على الإعلام الحكومي وشبه الحكومي الإضاءة عليها، في تقارير تلفزيونية سبقت إعدام الرجل وتلته، فهي مقاطع فيديو قد تكون لأي كان وفي كل مكان وتصلح لكل زمان، تظهر "حياة ماجنة" لمن يفترض أن يكون محمود موسوي مجد في ملاهٍ ليلية بيروتية مليئة بالكحول والمخدرات، وفق وكالة أنباء فارس، الحكومية طبعاً. وهناك، بين ملهى ليلي وآخر، اعتقل حزب الله مجد، وسلمه إلى السلطات الإيرانية، قبل عامين، والكلام منسوب إلى "فارس" مجدّداً.
هكذا، تقدّم السلطات الإيرانية ثلاث نسخات لرواية واحدة، وتترك حرية الاختيار للجمهور وفق ما يحلو له، في الداخل وفي الخارج، من دون أدنى شعور بالحاجة لتوحيد الخطاب، فالبلد ملكٌ لحكّامه، وقصصه هي قصصهم، فهم المخرجون وهم المنتجون والممثلون والسيناريست، والحبكة غير مهمة ما دامت الخاتمة هي نفسها لكل الروايات: تم إعدام الرجل وانتقمت إيران لاغتيال جنرالها الأثير. ومن لا يعجبه الوضع، فليشتك لدى منظمي الاحتجاجات التي اندلعت الأسبوع الماضي في جنوب غربي البلاد، والذين تم اعتقالهم جميعاً، وفق خبر رسمي آخر بثته وكالة "إرنا" الرسمية، مرة أخرى، في التوقيت نفسه لنشر خبر إعدام مجد.
بين رواية رسمية تنسف أخرى، ظل الثابت أن عناصر حزب الله هم مَن اعتقلوا مجد وسلموه إلى السلطات الإيرانية قبل عامين، فلا حكام طهران كذّبوا المعلومة، ولا إعلامهم، بأجنحته المحافظة أو "المعتدلة" أو "الأصولية"، دحضها، ولا طبعاً خرج نفي على لسان أحد مسؤولي الحزب وأبواقه الكثيرة. أما الدولة اللبنانية، فلا هي شعرت بواجب التدخل في الحكاية، بينما أحداثها المركزية دارت على أراضيها، ولا طالبها أحد بحفظ ماء الوجه تكذيباً للمعلومة أو تأكيداً لصحتها أو على الأقل اعترافاً بعدم علمها بها. الأدهى من ذلك كله التسليم بأن ما حصل، أي أن حزب الله اعتقل الرجل، وسلمه إلى السلطات الإيرانية، هو من "طبيعة الأشياء"، أي التطبيع مع وظيفة حزب الله ودوره الإيراني. فلا القصة أثارت نقاشاً صاخباً في لبنان، ولا في أي مكان آخر في العالم، وذلك بعد أكثر من 48 ساعة من إذاعة الروايات الرسمية المتناقضة التي احتل فيها تفصيل حزب الله موقع الثابت الوحيد.
استمع إلى المقالة: