مخارج "اللايقين السياسي" في تونس
على وقع حالة "اللايقين السياسي" الذي تعيشه تونس بعد مضي أكثر من أسبوعين على القرارات والإجراءات التي فجّرها الرئيس قيس سعيّد، بعد تأويله الفصل 80 من الدستور التونسي، وما نجم عنها من إعفاء لرئيس الحكومة، وتجميد اختصاصات مجلس النواب، ورفع الحصانة عن أعضائه، وتولّي الرئيس مسؤولية النيابة العمومية بنفسه (قبل تراجعه)، وبغض النظر عن اختلاف التوصيفات السياسية والتحليلات للجهات والتيارات الداخلية والخارجية الصادرة عنها لقرارات الرئيس وإجراءاته التي وصفها بعضهم بأنها انقلاب على الدستور وعلى المسار الديمقراطي، في حين وصفها آخرون بـ"الحركة التصحيحية" ومواجهة للفساد، على وقع هذه الحالة، تبقى الرهانات للخروج من المشهد السياسي التونسي المأزوم مفتوحةً على طروحات وخيارات معقدة بحساباتها ونتائجها، في ظل استمرار حالة "اللايقين السياسي" الناتجة من الاصطفافات السياسية بين مؤيد ومعارض وحسابات الانقسام السياسي والإيديولوجي، والأولويات المتزاحمة وغياب خريطة الطريق السياسية وآفاق القرارات والإجراءات. وفي إطار الحديث عن هذه الطروحات والخيارات، يمكن التطرّق إلى ثلاثة مخارج أساسية:
الأول، التراجع التدريجي عن بعض الإجراءات و"الأوامر الرئاسية" الإشكالية، وخصوصا فيما يتعلّق بتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانات البرلمانية عن أعضائه، مع الإبقاء على بعض الإجراءات الأخرى التي اتخذها الرئيس، كتكليف شخصية جديدة بتشكيل الحكومة التونسية، عوضاً عن هشام المشيشي، مع إجراء بعض الإصلاحات السياسية الضرورية. والسير في هذا الخيار يشكّل انتصارا للرئيس التونسي قيس سعيّد، ونصف هزيمة للائتلاف البرلماني الحاكم الذي كان مؤيداً للمشيشي ورافضاً استقالته، على الرغم من الأزمة السياسية التي كانت تمرّ بها البلاد، فالرئيس، في هذا الحال، يكون قد تخلّص من المشيشي الذي انقلب عليه بعد تسميته، وتحالف مع بعض الكتل البرلمانية ضدّه، وكذلك تخلّص من التحالف الذي كان قائماً بين الحكومة السابقة والحزام البرلماني الذي تقوده حركة النهضة، ليستعيد الرئيس بذلك أحقية تسمية شخصية جديدة مؤيدة له لتشكيل الحكومة الجديدة، والمتوقع ألا ترى النور إلا بعد انتهاء فترة تجميد عمل البرلمان المحدّدة بشهر حسب قرارات الرئيس. وقد يكون هذا المخرج دافعاً قوياً لإعادة التعاون بين الرئيس سعيّد والأغلبية البرلمانية لتشكيل حكومة توافقية جديدة، تتوزع حقائبها على القوى السياسية التونسية، وتنال ثقة البرلمان بعد استئناف عمله، وبعد وضع ضوابط على عمله، منعاً لممارسة الأدوار القديمة نفسها لبعض الأطراف السياسية والحزبية.
الجلوس إلى طاولة الحوار، وتقديم التنازلات المتبادلة، والتعامل مع الخلافات في إطار مؤسساتي بعيداً عن الشخصنة، يعتبر الأسلوب الأفضل والأنجع لفض الخلافات
المخرج الثاني، المضي في خيار الحوار الوطني الشامل. ويعتبر هذا الخيار من أفضل الخيارات المتاحة، إذا ما أراد التونسيون الحفاظ على نظامهم الديمقراطي الناشئ، وتعزيزه، ومنع العودة إلى الحقبة الاستبدادية والنظام الديكتاتوري، فالجلوس إلى طاولة الحوار وتقديم التنازلات المتبادلة والتعامل مع الخلافات في إطار مؤسساتي بعيداً عن الشخصنة، وتغليب منطق الحوار ومنطق التعقل السياسي، يعتبر الأسلوب الأفضل والأنجع لفض هذه الخلافات. ومع ذلك، تواجه هذا الطرح عقباتٌ عديدة، ربما أهمّها إصرار الرئيس التونسي على رفض الحوار مع من يصفهم بالمتآمرين والمنافقين والفاسدين وذوي النفوس المريضة، والخلايا السرطانية، إلا أنه قد يرضخ لهذا الخيار، ويُجبر على التراجع عن بعض قراراته وإجراءاته، في حال اشتداد الضغط الداخلي، وتوسّع معسكر معارضيه إلى جانب الضغط الدولي الهادف إلى إرجاع تونس إلى المسار الديمقراطي والدستوري، وربما يكون للوساطة الدولية دورٌ فاعلٌ في تحقيق هذا الأمر، حيث تزايد الحديث، في الفترة الأخيرة، عن وجود مبادراتٍ دولية لتقريب وجهات النظر وإيجاد حلولٍ لإخراج البلاد من مأزقها وأزمتها.
المخرج الثالث، الذهاب إلى استفتاء شعبي على النظام السياسي التونسي، وعلى القانون الانتخابي، في محاولة للخروج من نفق الصراع الدستوري – السياسي الذي كان قائماً طيلة الفترة الماضية، بين الرئيس الرافض الصيغة الدستورية الحالية وللنظام السياسي والبرلمان والأحزاب والمنادي بالنظام الرئاسي لتعزيز سلطاته وصلاحياته على حساب صلاحية رئيس الحكومة، وبين رئيسي البرلمان والحكومة المتمسكين بالنظام السياسي المختلط (البرلماني - الرئاسي) الذي أقرّه دستور عام 2014، والذي ترك مناطق تماسّ عديدة تثير غموضاً والتباساً بين صلاحيات الرئاسات الثلاث، في محاولة لمنع تفرّد أي من الرئاسات بالحكم على مبدأ "الجميع يحكم فيها ولا أحد يتحكّم".
من المهم جداً، في ظل الديمقراطية الناشئة في تونس، أن لا يبادر أحد الأطراف في السلطة إلى إحداث أي سابقةٍ قانونيةٍ أو ممارسة تخرج عن الإطار الدستوري
وفي حال السير في هذا الخيار، لا بدّ أن تتبع تغيير النظام السياسي التونسي انتخابات مبكرة برلمانية ورئاسية لإعادة إنتاج السلطة التونسية وعلى أسس واضحة وسليمة. والرئيس الأسبق، منصف المرزوقي، في قائمة الشخصيات السياسية التي طالبت بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، بما يضمن حلاً للأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد. ويستلزم المضي في خيار الاستفتاء والانتخابات المبكرة توافقاً بين فرقاء الأزمة السياسية في تونس، وهذا التوافق معدوم في الوقت الحالي، هذا عدا عن كلفتها السياسية والاقتصادية في بلدٍ يشهد أزمة مالية حادّة، كما أن الذهاب إلى استفتاء على النظام السياسي أو تعديل الدستور غير ممكن، في غياب المحكمة الدستورية التي لا تزال معطّلة بحكم التجاذبات السياسية الماضية.
في المحصلة، يمكن القول إنّه، وبغض النظر عن الخيارات المطروحة، من المهم جداً في ظل الديمقراطية الناشئة في تونس، أن لا يبادر أحد الأطراف في السلطة إلى إحداث أي سابقةٍ قانونيةٍ أو ممارسة تخرج عن الإطار الدستوري، تفادياً لاعتماد مثل هذه السوابق أو الممارسات في أي خلافاتٍ مستقبليةٍ قد تقع. لذا يبقى الحل الأنجع والمخرج الأفضل هو المضي في خيار الحوار الوطني والاتفاق بين كل القوى السياسية، بما فيها الأغلبية البرلمانية والرئاسة، على تشكيل حكومة جديدة مدعومة من كلتيهما، أو على الأقل قادرة على العمل مع البرلمان والرئاسة، لضمان الحد الأدنى من الاستقرار الحكومي والسياسي، من خلال التوافق فقط على خريطة طريق تعيد عمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وتعطي إجابات مقنعة ومتماسكة تضمن قواعد العدالة والحريات العامة وتعيد المسار الديمقراطي إلى طريقه الصحيح.