مخارج الجمود السياسي في لبنان
في ظل الصدام العلني غير المسبوق بين الرئاستين، الأولى والثالثة، في لبنان، بات ملف تأليف الحكومة اللبنانية يدور في حلقة مفرغة بعد انسداد الأفق السياسي في العلاقة بين رئيس الجمهورية، ميشال عون، ومعه صهره رئيس التيار الوطني الحر، النائب جبران باسيل، وبين الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري. وفي الوقت الذي لا يبدو فيه أي توجّه خارجي إلى العمل على إيجاد مخارج حقيقية للجمود السياسي في لبنان، باستثناء الحراك الفرنسي الذي طرح، بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس / آب 2020، مبادرة تقضي بتشكيل "حكومة مَهمّة" في لبنان، بعيداً عن منطق المحاصصة القائم، تدور الخيارات المطروحة داخلياً لإيجاد مخارج لإنقاذ لبنان من حالة الجمود السياسي السائد منذ ثمانية أشهر في أربعة طروحات أساسية:
الأول، اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري عن تأليف الحكومة، وقد طرح الرئيس عون هذا الأمر، في إطلالته التلفزيونية في 17 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وطلب فيها من الحريري فسح المجال لغيره في تأليف الحكومة، إذا وجد نفسه في عجز عن ترؤس حكومة إنقاذ وطني. كما طرحته أطراف حليفة للرئيس عون التي طالبت بسحب تكليف الحريري بتأليف الحكومة عن طريق مجلس النواب، بموجب رسالة موجّهة من رئيس الجمهورية إلى المجلس النيابي، لتكليف شخص آخر بهذه المهمة.
هذا الطرح الذي يتداوله الرئيس عون والتيار الوطني الحر، وبعض القوى الحليفة له، مستبعد ومرفوض من الحريري نفسه الذي يستند إلى تسمية الأكثرية النيابية بالاستشارات الملزمة لتشكيل "حكومة مهمة" بناءً على المبادرة الفرنسية، إلى جانب الدعم الإقليمي والدولي لتسميته، كما أنّ الدستور اللبناني والميثاق الوطني لا يُلزمان الرئيس المكلف بالاستقالة، أو بمهلة معينة لتشكيل الحكومة، وهذا التكليف يمكن أن يستمر أشهرا وسنوات، من دون أن تكون هناك آلية دستورية تلزم الرئيس المكلف بالاستقالة أو الإسراع بتشكيل الحكومة، أو بأي مهلة أخرى، وبالتالي لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يلزمه بذلك، كون رئيس الجمهورية لا توجد له سلطة على الرئيس المكلف بهذا الموضوع، الأمر الذي يعني أن الاعتذار عن التكليف من عدمه يرتبط بالرئيس المكلف نفسه الذي صرّح، أكثر من مرّة، أنّه لن يعتذر، ولن يقدّم استقالته، ولن يعطي عون وباسيل الوسائل لتقرير كيفية تشكيل حكومته، وخصوصا في ما يتعلّق بالثلث المعطل، أو أجندة الإصلاح التي قد يسنها.
الطرح الثاني استقالة رئيس الجمهورية، حيث طرح هذا الموضوع سعد الحريري وفقاً لمعادلة "الاعتذار مقابل الاستقالة"، رداً على طرح الرئيس عون الذي طلب من الحريري الاعتذار والاستقالة في حال عجزه عن تأليف الحكومة، كما طرحَته بعض القوى السياسية اللبنانية، كسمير جعجع وأحزاب متحالفة مع تيار المستقبل التي دعت إلى إسقاط الرئيس اللبناني، من خلال دفعه إلى الاستقالة تحت ضغط سياسي يترافق مع ضغط شعبي في الشارع.
من المستبعد أن يلجأ عون إلى الاستقالة طوعاً، وهو الذي يتعامل مع لبنان وأزماته بعقليّة الحزب، لا بمفهوم الدولة
هذا الطرح كسابقه لا يمكن تحقيقه لأسباب عديدة، أهمها غياب الغطاء المسيحي الذي لا يمكن التحرّك من دونه، إلى جانب ما يمكن أن ينجم عنه من انفجار أمني قد يتطوّر إلى حرب أهلية، خصوصاً في غياب هذا الغطاء. كما أن من المستبعد أن يلجأ الرئيس عون إلى الاستقالة طوعاً، وهو الذي يتعامل مع لبنان وأزماته بعقليّة الحزب، لا بمفهوم الدولة، فهو أقرب ما يكون إلى رئيس حزب منه رئيس دولة، لذا يستمر في قتاله على الحصص الحكومية المرجّحة وتوزيع الوزارات، من دون تقديم أي تنازلات، طالما ظلت العقوبات على صهره جبران باسيل الذي يقاتل عون ليكون خليفته في سدّة الرئاسة العام المقبل.
الطرح الثالث، تفعيل حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها حسان دياب الذي قدّم استقالته عقب انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020. ويصطدم هذا الطرح الذي تدفع به بعض القوى المناوئة لسعد الحريري، والقريبة من الرئيس عون، برفض حسّان دياب الذي لا يزال يرفض تفعيل دور الحكومة المستقيلة من دون الحصول على تغطيةٍ من المجلس النيابي الذي ردّ رئيسه نبيه بري على دعوة دياب إلى تفسير القانون لجهة تصريف الأعمال، بالقول: "الدستور واضح في ما يخص تصريف الأعمال بالنطاق الضيق، ولا يحتاج إلى تفسير، وهو تسيير الأمور الضرورية التي تفيد الشعب، أو تدفع الضرر".
تلويح فرنسي بزيادة الضغوط على القوى السياسية إلى حد فرض عقوبات أوروبية
الطرح الرابع، الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، تعيد تكوين السلطة، وهي أحد مطالب الشارع اللبناني المنتفض ضد القوى السياسية والسلطة الحاكمة بعد انتفاضة تشرين (2019) إلا أن هذا الطرح مرفوض من الكتل النيابية الكبيرة التي تقاتل من أجل زيادة حصتها وتأثيرها في البازار السياسي الذي يُغرق لبنان في جمود سياسي وأزمة مالية واقتصادية خانقة، هي الأسوأ في تاريخه.
في ضوء ما سبق من طروحات داخلية، وإزاء هذه الأولويات والأهداف المتباينة والمتناقضة للفرقاء اللبنانيين، وعدم استعدادهم لتقديم تنازلات لبعضهم بعضا يبقى التلويح الفرنسي بزيادة الضغوط على القوى السياسية اللبنانية، والتي قد تصل إلى حد فرض عقوبات أوروبية بحق الفرقاء الذين يعطّلون تشكيل الحكومة، هو الطرح الأكمل الذي قد يدفع هؤلاء الفرقاء إلى تقديم التنازلات للخروج من الوضع الحالي، ووضع الأمور على طريق الحل، من خلال تشكيل "حكومة مهمّة" تتكوّن من اختصاصيين قادرين على استعادة الثقة على الصعيدين، المحلي والدولي، وعلى التعامل مع الأزمة المركبة من الديون والوضع المعيشي والصحي والأمني والسياسي، وتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها المقرضون الدوليون. وإلا على اللبنانيين أن يعيدوا رسم تحرّكاتهم في صورة ثورة جديدة متجدّدة ضد السلطة الحاكمة والمتحكّمة، لإعادة تنظيم الدولة اللبنانية على أسس جديدة، عبر انتخابات نيابية حقيقية على أساس "المواطنة"، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعنصرية، واعتماد إصلاحات حقيقية وجدّية في الدستور تتيح بناء "دولة المواطنة" الحقيقية، وتعيد الديمقراطية إلى مسارها الصحيح، بعيداً عن الطبقة السياسية الفاسدة وتبعيتها الإقليمية.