مدفعية خليل عواودة
في زمن الخذلان والهوان والتطبيع، والانهيارات على كل صعيد، هبّت من داخل زنازين الاحتلال نسمة حرية منعشة، بعدما ربح الأسير خليل عواودة، معركة شخصية ووطنية كبيرة، وضارية بكل المعايير، ترقى إلى مستوى الملحمة، لكثرة ما انطوت عليه من دلالاتٍ وحقائق ورمزيات، وخرج منها خليل مرفوع الرأس، مسجّلاً أطول فترة إضراب عن الطعام في تاريخ الكفاح الفلسطيني، وربما في تاريخ حركات التحرّر العالمي، بلغت نحو ستة أشهر، وانتهت كما أرادها هذا البطل، بانتزاع حقه في الحرية والكرامة، وبتحقيق انتصار سياسي وأخلاقي جديد، ضد جلاد غليظ الرقبة قليل الحياء.
وبصمت وتواضعٍ وإصرارٍ لا يلين، تنكّب الشاب الأربعيني، ابن محافظة الخليل، دروب من سبقوه على هذا المضمار الشاقّ الموحش الطويل، الدرب الذي لا يقدر على اجتياز فيافيه القاحلة سوى نفر من الرجال ذوي الشكيمة القوية والبأس الشديد، أصحاب الإرادات الفولاذية والعزائم القوية، متكئاً على أمعائه الخاوية، على عدالة قضيته، على معنوياته العالية، وأيضاً على مضاء شعبٍ لم تنكسر روحه تحت أشد النازلات، إلى أن فاز فوزاً يليق بصبره على آلام الجوع والحرمان، ورهبة الموت البطيء، فضلاً عن مشقّة الانتظار الطويل لفجر يوم مشرق عزيز.
كانت هذه هي مدفعية خليل عواودة الثقيلة خلال معركته الأسطورية المديدة ضد سجّانيه المدمنين على خطف الانتصارات السريعة، مدفعية لم تصاحبها جعجعة كلامية، ولم ترافقها مظاهر قوة استعراضية فارغة، من نوع سنزلزل الأرض تحت أقدامهم ونقلب الطاولة على رؤوسهم، بل كانت بطارية مدفعية "ناعمة" صوّبت قذائفها الثقيلة على مطارح كاشفة لزيف مزاعم دولة احتلال تدّعي تمسّكها بمُثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتظاهر بانتسابها إلى القيم الغربية، فأتت القذائف حسنة التصويب وجاءت الأهداف دقيقة.
وأحسب أنه بقدر ما كان الشعب الفلسطيني في حاجة إلى مثل هذا الفوز المسجّل باسم خليل عواودة، الذي كان قد بدأ إضرابه عن الطعام مع تجدّد العمليات الفدائية الفردية، سيما بعدما استهان المطبّعون بتضحيات شعب الجبارين، وتنكّروا لها بخفّة، بقدر ما كانت حركة الجهاد الإسلامي (خليل أحد أعضائها في الضفة الغربية) بحاجةٍ مماثلةٍ إلى مثل هذا الإنجاز الكبير، بعدما جرى الاستفراد بها، وفقدانها الصف الأول من قادتها العسكريين في العدوان أخيرا على قطاع غزة، الأمر الذي بدا فيه إضراب خليل بمثابة رافعة كفاحية ملهمة، عدّلت، بعض الشيء، الخلل الفادح في الموازين.
لا يمكن فهم مغزى معركة الأمعاء الخاوية هذه إلا من خلال النظر إليها في السياق الأشمل لهذا الصراع الدامي المرير، ليس باعتباره نزاعاً على الأرض فقط، وإنما كونه صراعاً على الرواية والصورة، تدور رحاه في نطاقات الوعي والذاكرة، وتحتدم سجالاته في فضاءات الأمم المتحدة والرأي العام والإعلام والمنظمات الحقوقية، الأمر الذي يبرز مدى أهمية المعركة المجيدة التي خاضها عواودة نيابةً عن آلاف المعتقلين مثله، مناضلا في سبيل الحرية، وكربّ أسرة صغيرة فقيرة، تحوّل في خضمها، ليس إلى جلدٍ على عظم، وفق ما بدا في صوره الأخيرة داخل المعتقل، وإنما إلى رمز وطني باذخ، وصار مصدر فخر واعتزاز لبني قومه من الماء إلى الماء.
لا أحد يعلم على وجه الدقة ما هي القوة الدافعة التي مكّنت خليل عواودة من المضي في إضرابه الأسطوري هذا كل هذا الوقت الطويل، ومن أين استمد الرجل النحيل هذه الدافعية، هذا الصبر على الجوع الرهيب، هل هو الحسّ العميق بالظلم الشديد، بعدما تكرر اعتقاله من دون وجه حق مرّات ومرّات، أم هو إدراكه الخفي في اللا شعور أن المعركة مع الاحتلال لا تجري على الأرض فحسب، ولا بالصواريخ والسكاكين، وإنما تدور في جوهرها على ساحة الوعي، الذي حاول المحتل كيّه بفظاظةٍ خلال الانتفاضة الثانية قبل نحو عقدين، بجملةٍ لا نهاية لها من عمليات الفتك والترويع والإرهاب، الموظف لخفض الروح المعنوية، ودفع الفلسطينيين إلى الإحباط، ومن ثمّ الكف عن المقاومة، والتوقف عن معاقرة الحلم بالحرية والاستقلال كبقية الشعوب؟
وغداً، حين يستكمل خليل علاجه من مضاعفات الإضراب الطوعي عن الطعام، ويعود إلى زوجته وبناته غانماً سالماً مكللاً بالغار، ويستقبل المهنئين، فإن له الحق في أن يرفع رأسه عالياً، ويتقبّل الإطراء بلا حساب، كونه صانع مجد وطني عزّ نظيره، وباعتباره أحد المحاربين الأشداء، ممّن ردوا على محاولات كيّ الوعي الفاشلة بعملية كيّ وعي فلسطينية مضادة، وناجحة، من منظور أصحابها على الأقل.