مذكّرات صلاح أبو زيد
العنوانُ أعلاه مُضلّل، يُنبِئ أن السطور أدناه عن مذكّراتٍ كتَبَها ونشَرها رجل الإعلام والسياسة والفنون والثقافة، صاحبُ الأدوار المؤسّسة والرائدة في بلده، الأردني صلاح أبو زيد، الذي توفّي قبل أيام عن 99 عاما. ولكن الصحيحَ أن مقرّبين منه نقلوا عنه قبل سنوات أنه كتبَ مذكّراته، لكن "الظروف لا تسمح بنشرِها". وأفاد مقرّبون منه آخرون بأن كتاب سيرتِه هذا حافلٌ بتفاصيل حياته السياسية، ويأتي على كثيرٍ من غير المعلوم، وما قد تعدُّها أوساطٌ متعلّقةٌ بها أسراراً، غير أنه لم يفضّل نشرَه. وفي البال إن الصحافي الصديق طلعت شناعة جالَسَ أبو زيد قبل سنوات، وسمع منه تفاصيل عديدة، ولكنه طلب عدم نشر شيء، "لأنه ممنوعٌ من الظهور الإعلامي". وهذا عجيبٌ، فالرجلُ ليس فقط أول مدير لإذاعة عمّان (1958) ثم نائب مدير الإذاعة الأردنية، ثم أوّل وزير إعلامٍ في الأردن في العام 1964، وأول وزير ثقافة (1967)، ثم وزير السياحة والآثار .. والخارجية لاحقاً، ثم السفير في بريطانيا، ثم مستشار للملك، وإنما كان، إلى هذه المناصب الرسميّة (وأخرى غيرها) في الدولة الأردنية، مذيعاً شهيراً في زمنه، ورجلَ إعلامٍ وصاحبَ مبادراتٍ مبكّرة في إطلاق مهرجاناتٍ فنّيةٍ وغنائيةٍ (مهرجان "وين ع رام الله" مثلا). وليس معروفاً ما إذا قد بالغَ في التحسّب و"الوسوسة"، أم إن الذي جاء، في كتابه (قيل إنه ضخم)، على ما قد لا يكون من النافع إشهارُه بشأن خياراتٍ سياسيةٍ أو شخصياتٍ عملَ معها وعملت معه، أو أنه أبدى وجهاتِ نظرٍ ليست مقبولة، وهو الذي ظلّ رسميّاً جدّاً وابنَ مؤسّسة الحكم وأجهزتها (من أهم أذرع الدولة الأردنية في شتْم جمال عبد الناصر في واحدٍ من أطوار خصومة الملك حسين معه)، ثم لم يجِد في شيخوختِه المستقرّ الذي يريد في بلدِه، فلقي رعايةً خاصّةً من الشيخ زايد وأبنائه في أبوظبي التي توفّي فيها.
نادراً، إلى حدّ الغياب ربما، أن تُصادف كُتب مذكّراتٍ للسياسيين وغيرهم تخلو من الإتيان على أشخاصٍ، احتكّ بهم أصحابُها، بما يبخّس منهم أو يُؤذي صورَتَهم أو يجْرح فيهم، وعلى أجواء عملٍ غيرِ مريحةٍ أو ليست مُرضيةً مع فلانٍ أو علّان. وليس في هذا، في تقديري، ما يطعَن في قيمة ما يُفضي به كاتبُ المذكّرات (أو ساردُها) المطالَبُ بأن يروي ما يعلم، وللآخرين أن يوضحوا ما لديهم فيه مما لا يعلمه، على أن يبتعد هذا كلّه عن المسّ المُهين أو الجارح وعن اتّهامٍ حادٍّ بما لا دلائل مؤكّدة عليه. وقد فاجأني في قراءاتي مذكّرات مفكّرين ومثقفين وأكاديميين، كعوبُهم عالية، ما يشخّص صورة غير طيّبةٍ عن أجواء عملٍ في جامعاتٍ ومؤسّساتٍ ومنابر ثقافية (مذكّرات حسن حنفي مثلا). وإذا كان صلاح أبو زيد أعاد "حبسَه" القصير في السجن في منتصف السبعينيات إلى "حاقدين" عليه، بعد أن اتّهمته حكومة مضر بدران ببيع "عفشٍ" في السفارة الأردنية في لندن، فله أن يقول هذا، وكذا الأمرُ في قوله مرّة إنه لا يكره من اختاروا أن يكونوا أعداء له.
ينتسبُ صلاح أبو زيد إلى زمنٍ أردنيٍّ (وعربيٍّ) مضى، ولا يحوزُ اسمُه شهرة بين جيليْن من الأردنيين، ولم يُحرِز ذيوعاً عربياً، وربما قلّةٌ من قد يتملّكهم فضولٌ لمعرفة حكاياتٍ محليةٍ وعتيقةٍ من سيرتِه في العمل العام، وفي مؤسّسات الدولة الأردنية قبل عقود، وإنْ يمكن الزّعم إن ثمّة أهميةٌ مفترضةٌ لمرويّاته بخصوص سيرورة بناء هذه الدولة، في شيءٍ من خمسينيات القرن الماضي وكلّ ستينيّاته وبعض سبعينيّاته، إذ قد تُساهم في تأثيث صورةٍ للفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي الأردني في تلك الغضون. غير أن في الوُسع أن يفترض واحدُنا أن شطراً عريضاً في مذكّراتٍ ربّما كتَبها صلاح أبو زيد لا بد وأنه يتعلّق بما أوْلاه شخصُه من جهدٍ أساسيٍّ وحيويٍّ في إطلاق "الأغنية الأردنية" الفلكلورية (الهويّاتيّة) وغيرها، في زمن مبكّر، (كتب بنفسِه بضع أغنيات) وهو الذي أطلق أصوات المغنّين، توفيق النمري وجميل العاص وسلوى وعبدُه موسى (وغيرهم)، وكذا أصواتاً عربيةً، من أشهرها سميرة توفيق التي قالت غير مرّة إنها لولاه لما صارت سميرة توفيق المغنيّة التي نعرف. وللراحل صداقاتُه البعيدةُ مع فيروز والرحابنة. ... والمرجّح أن حكاياتٍ وفيرةً من تلك الأجواء في ذلك الزمن الذهبي للإذاعة احتشدَت بها ذاكرة صلاح أبو زيد... هل تُراه كتبَ عنها، وأضاءَ على مرحلة تأسيسٍ مبكّرةٍ في إشهار أغنياتٍ أردنيةٍ وعربيةٍ رائقة؟ ... يا ريت.