مزيد من الاختناق والضجر
في الهزيع الأخير من الليل، وقد استعصى عليكِ النوم، وبات أكثر استحالة من العنقاء والخلّ الوفي، بسبب الطقس القبيح شديد الحرارة وهجمات جحافل الناموس السادية، المتواصلة على جسدك المتعب العاجز عن المقاومة، وتمكّن الأرق من حواسّك كلها. تتأففين كثيرا وتوجّهين اللوم إلى موقع طقس العرب، باعتباره المسؤول الأول عن هذه الموجة الحارّة ثقيلة الظل، وتطلقين في الهواء الساخن الثقيل البليدة شتائم غير لائقة بحق كل شيء، قبل أن تهربي إلى يوتيوب ملاذك الليلي المعتاد سلاحا تشهرينه في وجه القلق، يأخذك الموقع إلى عوالم متعدّدة تجولين فيها على هواك بين مختلف عناوين المحاضرات التي تقودك إحداها، في النهاية، إلى نوم عميق.
تستوقفك محاضرة جديدة للمفكّر والمؤرّخ، خزعل الماجدي، بعنوان "سقوط الحضارات"، يشرح الماجدي، بشغفه المعهود وعلمه الغزير، أسباب سقوط الحضارات القديمة والوسيطة الحديثة التي مرّت على البشرية، وقد عزاها إلى ضعف آخر ملوكها أو الغزو الخارجي لها، إضافة إلى أسباب داخلية، أهمها الفساد الأخلاقي لدى النخب، وتحطّم القيم وانعدام الحرية وتفشّي الفوضى المنفلتة، إضافة إلى التعصب الديني والاحتراب المذهبي والحروب الخارجية وصراع إمبراطوريات كبرى سادت ثم بادت، خاض في تفاصيل دقيقة مثيرة للهلع، أطارت آخر فرصة لك بالخلود إلى النوم، ولو ساعات قليلة، لكن ذلك لم يحدُث. تعلنين استسلامك أمام هجمة الحر واستنفار الناموس، وتهجرين الفراش معترفة بالهزيمة.
قالت لك نفسك اللوّامة بغضب بالغ: ليس من الحكمة الاستماع الآن إلى محاضرة من الوزن الثقيل، تستدعي انتباها وتركيزا كثيريْن، من الطبيعي أن يفرّ النوم من عينيك، أيتها الحمقاء، حسنا فهمنا! أنت مفتونةٌ بالميثولوجيا، تسحرك الأساطير وتجذبك عوالم التاريخ السحيقة. ويعجبكِ منجز الماجدي على وجه الخصوص، وتحرصين على اقتناء ما توفّر من كتبه التي تزيد عن المائة، وكنت أكثر الناس سعادة بافتتاح قناته على "يوتيوب". .. برافو! لكن صدّقيني "مش وقته". الأولى أن ينهد جسدكِ، وتنامي مثل خلق الله من دون أن تحلمي بسرجون الأكادي وجلجامش وأنكيدو وعشتار. لن يفيدك أي من أولئك، وأنت تترنّحين من الإرهاق خلال النهار. .. يبدو أنك رضخت، أخيرا، لتقريع نفسك اللوّامة التي تميل إلى العصبية. تبحثين عن مواضيع أكثر خفة، علها تصرف ذهنك عن الأرق اللعين الذي يتحكّم بك أكثر كلما حاولت مقاومته. تلاحقين آخر مستجدّات الخناقة بين شيرين عبد الوهاب وطليقها. تعجبين من مستوى الهبوط الأخلاقي، حين تتابعين تفاصيل مشينة من سخرية وشماتة، بسبب زيادة وزنها. وقبل أن تفكّري بإدانة بعض الفنانين العرب وسلوكياتهم المؤسفة، عند نهاية العلاقة. يصدمك خبر ظهور النجم العالمي، جوني ديب، في حفل موسيقي بشكل سخيف ممجوج، وهو يرتدي بدلة رائد فضاء، ساخرا من طليقته التي تسبّب في إفلاسها، إثر نزاع قانوني شرس، قائلا بشماتة: كنتُ بحاجة للعمل، وأنا متاح لأي مناسبات أخرى.. أعياد ميلاد، حفلات زفاف". .. يشدّك خبر مشاجرة أخرى لأسباب تافهة بين مطرب لبناني تنتمي أغانيه إلى النوع الهابط، وتنطوي معظمها على إساءة للمرأة وبين مواطنته المطربة المحبوبة لدى جمهور الرجال، لأنها تعتمد الظهور المثير على المسرح. تبادل الاثنان الردح عبر مواقع التواصل، غير أن الأخير تمادى في الإساءة، واستخدام الألفاظ النابية، ما دفعها إلى اللجوء إلى القضاء. وقد انتقل الصراع إلى جمهور النجمين، فامتلأ فضاء الافتراض بالشتائم والاتهامات. اللافت في الأمر أن النساء كن من أشد مهاجمات الفنانة الجميلة، وذلك من باب الغيرة على الأغلب.
تنبهت حواسّك كلها، فيما أوشك الفجر على الانبلاج، مبشّرا بيوم أشد حرارة، لا يعد سوى بمزيد من الاختناق والضجر!