مستقبل الاحتجاجات في إيران
انطلقت، منذ نحو أربعة أسابيع، تظاهرات في إيران اعتراضاً على مقتل الطالبة مهسا أميني (22 عاماً)، على يد الشرطة، ما فجّر تظاهرات عارمة اجتاحت معظم المدن الإيرانية، وانضمت إليها قطاعات مختلفة من المجتمع، في مقدّمة طلبة الجامعات والمدارس. عام 2009 انطلقت تظاهرات ضخمة في إيران ضد ما عرف حينها بتزوير الانتخابات، وقد وجّه حينها المرشّح الإصلاحي مير حسين موسوي (حالياً في إقامة جبرية)، والمرشّح الرئاسي مهدي كروبي اتهامات للنظام بتزوير الانتخابات، فانطلقت تظاهرات عمّت مدناً إيرانية، عرفت تلك التظاهرات باسم الحركة الخضراء، غير أنّ تلك الحركة كانت لها قيادة، كما أنّ تلك القيادة كانت تعرف جيداً الحدود التي لا يمكن تخطّيها للحفاظ على النظام، فبصورةٍ أو بأخرى هم جزء منه، فإن اختلفوا معه بشأن طريقة تعاطيه مع الأمور لكن هناك اتفاقاً على الحفاظ عليه.
بعدها بثماني سنوات عام 2017، انطلقت تظاهرات ضخمة بسبب تردّي الأحوال الاقتصادية، وارتفاع معدّل البطالة، وكان حجمها أكبر من التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على تزوير الانتخابات، لكن لم تكن لها قيادة، وهو وضع التظاهرات الحالية التي ليست لها قيادة، ولا يستطيع أي حزبٍ أو حركة سياسية داخل إيران أو خارجها ادّعاء قيادة الحراك، فهو حراك بلا رأس. لكن ما يجعل التظاهرات الحالية مختلفة عن سابقاتها أنّها ضخمة وانضمّت إليها فئات مختلفة وشملت مدناً إيرانية عديدة، إلى جانب الحركة الطلابية. ففي بعض المناطق خرج الطلبة من باحات الجامعات إلى الشوارع، مثل بعض جامعات طهران وشيراز وأصفهان وتبريز، في حين حاولت الشرطة والأجهزة الأمنية عدم التصادم معهم، وعدم اعتقال الفتيات اللاتي خلعن حجابهن، وقد وردت أنباء أنّ 120 جامعة إيرانية شاركت في الإضراب الذي حصل منذ أيام. وقد بدت واضحة الجرأة التي أبداها المتظاهرون في حرق صور المرشد الإيراني علي خامنئي ونزعها، في إشارة واضحة لتحدّي نموذج الحكم القائم ورفضه. توقيت هذه التظاهرات يتشابه مع التوقيت الذي قامت فيه تظاهرات الحركة الخضراء، وهي أنّها خلال هاتين المرتين اندلعت في عهد رئيسين ديمقراطيين، هما باراك أوباما وجو بايدن، كما أنّ ردّ فعل كلّ منهما متشابهٌ في التعاطي مع تلك التظاهرات، فحينما اندلعت تظاهرات تزوير الانتخابات، بدت حسابات أوباما حينها مرتبكة، فقد كان ميّالاً حتى لقبول نتيجة الانتخابات عند اندلاع التظاهرات، ثم عادت لهجته إلى الارتفاع مع استمرار التظاهرات بالتوازي مع قرار الكونغرس بتأييد المتظاهرين بالإجماع تقريباً. وإذا اعتبرنا فترة ولاية بايدن امتداد لولاية أوباما، أو ما يمكن أن نطلق عليها "الولاية الثالثة لبايدن" فلا بدّ أن نعرف أنّ رد فعل بايدن قريب من رد فعل سلفه الديمقراطي باراك أوباما، ويبدو أنّ مسألة التفاوض مع إيران بسبب ملفها النووي هو الذي يقيّد بايدن في شن هجوم أو استخدام لهجة حادّة، فهو لا يريد تضييع الفرصة في الوصول إلى اتفاقٍ بشأن الملف النووي الإيراني، كما أنّ الدول الكبرى لا تتعامل في سياستها بالأماني، بل بالموقف على الأرض، ويبدو حتى اللحظة أنّ الأمور لم تخرُج عن سيطرتها. ومن هنا، لم تتسم لهجة بايدن بالحدّة.
مسألة التفاوض مع إيران بسبب ملفها النووي هو الذي يقيّد بايدن في شنّ هجوم أو استخدام لهجة حادّة
في المقابل، تدرّجت ردود الفعل الدولية على التظاهرات وكانت غير منسّقة في البداية، فهي بدأت على استحياء مع بداية التظاهرات ثم تصاعدت، بالتوازي، مع استمرارها وصمودها أمام قوات الشرطة والأذرع الأمنية. أولها كان لبريطانيا التي جاءت انتقاداتها قوية لقمع الشرطة، ثم تبعتها النرويج، ولهذا استدعت طهران سفيري الدولتين للاحتجاج على التصريحات الصادرة عن بلديهما. في ما يتعلق بلندن، هناك حساسية نتيجة للأخطاء التاريخية التي ارتكبتها لندن تجاه طهران منذ فصل أفغانستان عن إيران بموجب معاهدة 1857 وحتى الاتفاق الثنائي الروسي الإنكليزي عام 1905 على تقسيم إيران إلى منطقتي نفوذ شمالية وجنوبية تتحكّم فيهما الدولتان على التوالي، إلى جانب تورّط لندن في عملية إطاحة الزعيم الوطني الكبير محمد مصدق عام 1953، بالتنسيق مع واشنطن. وبالتالي، حجم التوتر بين البلدين واضح، وله خلفياته التاريخية، وعملية اتهام طهران لندن بالتدخّل في شؤونها الداخلية مسألة متكرّرة، كما أن لندن لم يعد لها ثقل سياسي أوروبي كبير مثل برلين التي جاءت تصريحاتها حادّة، وطالبت بفرض عقوبات على النظام الإيراني.
أن يفلح النظام في قمع التظاهرات هو الاحتمال الراجح، لكنّ الشروخ على بنية النظام ستكون واضحة وسيخسر رئيسي معنوياً وشعبياً
على هذه الخلفية، يمكن تفسير المواقف الغربية من التظاهرات، فليس الحرص على الديمقراطية هو الأولوية، بل المصالح الوطنية لكل عاصمة، وهو أمر من بديهيات المدرسة الواقعية في السياسة الدولية. على الرغم من أن التظاهرات الحالية أخذت بعدا ذا تضامن دولي، حيث نرى مشاهير كثيرات يقصصن شعورهن كنوع من التضامن مع المرأة الإيرانية وضد ممارسات النظام القمعية التي أدّت إلى مقتل الفتاة التي فجّرت هذا الغضب، لكن وبنظرة موضوعية، ما أراه الآن من تقدير للموقف لما يجري في شوارع طهران أنّ المتظاهرين أظهروا تصميماً على الاستمرار بالتظاهر في مواجهة الأذرع الأمنية وإعلان مرشد الجمهورية علي خامنئي أنّ هذه التظاهرات مؤامرة أميركية غربية، وكان مخطّطاً لها مسبقاً.
لكنّ الملاحظ أنه ليست لدينا صورة واضحة لأعداد المتظاهرين، هل تتزايد أم تتناقص بفعل القوة القهرية التي تواجههم من الشرطة. لذا، ما هو السيناريو المتوقع لهذه التظاهرات في إيران؟
هناك سيناريوهان: الأول، أن يفلح النظام في قمع التظاهرات، وهو الاحتمال الراجح، لكنّ الشروخ على بنية النظام ستكون واضحة وسيخسر الرئيس إبراهيم رئيسي معنوياً وشعبياً في كلّ الحالات. الثاني، أن تستمر التظاهرات لفترة مقبلة. وفي هذه الحالة، ستتجاوز معاني التظاهرات لتصبح اعتراضاً على كامل النظام، وستكون تداعياتها خطيرة على مشروعية النظام الإيراني بكلّ أجنحته. في المقابل، النظام الإيراني مركّب ولا تتحكم فيه دائرتان في الحكم أو دائرة واحدة على طريقة الدول العربية، بل هو نظام له دوائر وتحالفات متعدّدة، كما أنّ لدى نخبته القدرة على إعادة الاصطفاف، لاحتواء أيّ غضبٍ قد يهدّد بنية النظام القائم. إلّا أنّ هناك سؤالاً مطروحاً بشأن مسألة الاستمرارية، هل بمقدور المتظاهرين الاستمرار في الشوارع فترات طويلة، على الطريقة السودانية مثلاً؟ أم أنّ النظام سيقمعهم... وهو الأمر الأكثر رجحاناً؟