مستقبل تونس موصولاً بالانتخابات الرئاسية المُرتقبة
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
تسير الحياة السياسية في تونس على وقع الانتخابات الرئاسية، وتتناثر الأوراق والقضايا والاستحقاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مُوغِلَةً في الزمن الانتخابي، ومُستثمَرَةً في تطوّراته وتقلّباته، فكيف يمكن أن تجتزئ الأوساط السياسية، المعنية بهذا الاستحقاق، ما يقع في المشهد العام في البلاد، وما يكتنف المعيش اليومي للمواطن من ضنك وضبابية، وما يَختَزِله نسق الحياة الاقتصادية من بطء وجمود يشيان بصعوبة التغيير المنشود، وبتعثّر الإصلاح الموعود؟
يبدو أنّ كثيرين معنيون بهذه الانتخابات من بعيد أو من قريب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ أحزاب، شخصيات عامة، أفراد، جماعات، وليتنافس المتنافسون. بعضهم عبّر عن ترشّحه علناً، وبعضهم لم يعلن، رغم نيّته خوض غمار هذه الانتخابات، وبعض آخر لا يزال متردّداً ويَرْقُبُ مستجدّات المشهد الانتخابي، ويراجع حساباته السياسية، لا سيّما وأنّ قواعد اللعبة الانتخابية لم تتوضح بصورة نهائية، عبر إصدار قانون أو نصّ ترتيبي يضع القواعد التفصيلية للمبادئ العامة الدستورية المتعلّقة بشروط الترشّح للانتخابات الرئاسية، فالمتأمّل في المشهد السياسي يلاحظ اهتماماً متزايداً ومكثّفاً بهذه الانتخابات دوناً عن باقي الانتخابات التشريعية والمحلّية الماضية، التي شهدت عزوفاً كبيراً جعل المعارضة وعديداً من الملاحظين يشكّكون في مصداقيّتها وتمثيليّتها، ويعتمدونها برهاناً للطعن في "المسار التصحيحيّ للثورة"، الذي انطلق يوم 25 يوليو (2021)، كما يسمّيه مساندو الرئيس قيس سعيّد ، وفي "المسار الانقلابي على الشرعية الدستورية وعلى الثورة"، كما يسمّيه معارضو الرئيس.
بمقتضى أحكام الدستور الجديد، أضحى الرئيس يحتكر الصلاحيات التنفيذية كلّها، ويعتبر محوراً للنظام السياسي بأكمله
الاهتمام بالانتخابات الرئاسية، بصورة خاصّة، يُفسَّرُ بالدور المركزي لرئيس الجمهورية في الدستور الجديد، الذي أصدر في عام 2022، وذلك إثر حلّ البرلمان التونسي، وإقالة رئيس الحكومة، وإبطال رئيس الجمهورية العمل بدستور 2014. فبمقتضى أحكام هذا الدستور الجديد، أضحى الرئيس يحتكر الصلاحيات التنفيذية كلّها، ويعتبر محوراً للنظام السياسي بأكمله، ينسج خيوطه ويشرف على مختلف الفاعلين فيه، فالحكومة لا تمثّل هيكلاً منفصلاً عن رئيس الجمهورية، بل هي خاضعة له خضوعاً مطلقاً، وظيفياً وهيكلياً، يُعيّن أعضاءها وينهي مهامّهم متى يشاء، ويضبط برنامجها وسياساتها العامة، بل يذهب بعض خبراء القانون الدستوري إلى القول بهيمنة رئيس الجمهورية على باقي السلط التشريعية والقضائية، التي تحوّلت مجرّدَ وظائف تتولاها هياكل لا تتمتّع بالاستقلالية وما تستوجبه من ضمانات، ولا يجوز أن ينطبق عليها مبدأ الفصل بين السلطات، كما نظرّ له مونتسكيو (1755)، وكما نزّل في الأنظمة السياسية الرئاسية والبرلمانية، التي تتّسم بالديمقراطية والتعدّدية وحرّية الرأي والتعبير، والتداول السلمي على السلطة، فالنظام السياسي المنبثق عن دستور 2022 هو أقرب إلى الرئاسوي منه إلى الرئاسي، باعتبار أنّ رئيس الجمهورية هو المُهيمن على مؤسّساته والمُتحكّم في توجهاته وسياساته، ولعلّ هذا السبب الرئيسي الذي يبرّر التهافت على المشاركة في الانتخابات الرئاسية، لأنّ الشخصية التي ستتبوأ هذا المنصب ستحظى بمكانة محورية في صلب نظام الحكم، وسيكون بيدها الحلّ والربط، وستحتكر القول الفصل وسلطة القرار والفعل، فإن نجحت نجحت معها جميع مكوّنات السلطة، وإن فشلت تهاوى معها الجميع، فهي الضامن الوحيد لنظام الحكم بكامله، الذي أصبح مُرتَهَنَاً لهذه الشخصية، لا سيّما في ظلّ غياب تركيز المحكمة الدستورية، فإمّا أن تأخذه الى برّ الأمان والنجاة أو أن تغوص به في غياهب الفشل والخسارة، كما أنّ المراهنين على ضرورة تغيير نظام الحكم، بما يضمن له جرعاتٍ إضافية من الديمقراطية والحرّية، لا حيلة لهم في ذلك، إلا من داخل أجهزة الحكم، فقد فشلت كلّ محاولات المعارضة، وحتّى الموالاة، في التغيير والتأثير، والحدّ مما يعتبرونه مُؤشّرات للتسلط والاستفراد بالسلطة، عبر آليات من خارج منظومة الحكم، بل أضحى المُنتقدون ودعاة الإصلاح والمنذرون بعودة الاستبداد، إما عرضة للملاحقات القضائية أو فريسة للتهميش والشيطنة والإقصاء.
المشهد السياسي والإعلامي لم يفسح المجال لبروز شخصيات عامة وازنة ومُؤثّرة، يمكن أن تكون ذات ثقل انتخابي
لكن، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً بشأن مدى حظوظ المرشّحين في الفوز أمام طغيان شخصية الرئيس الحالي، قيس سعيّد، على المشهد السياسي، وسعيه الى تحييد الأحزاب السياسية وتحجيم دورها، إذ يَعتبرُها أجساماً وسيطةً لا جدوى لها، وغير قادرة على التعبير عن إرادة الشعب، بل يذهب إلى اعتبارها مصدراً لكلّ الآفات والإخفاقات التي عانت منها البلاد طيلة العشرية الماضية، ويصمها بترذيل الحياة السياسية وتسميمها، لذلك نجد أنّ عديداً من زعماء الأحزاب المُؤثّرة في السجون، وتلاحقهم تهم خطيرة بالخيانة والتآمر على أمن الدولة، أمّا ما تبقى من أحزاب على الساحة السياسية فتعدّ ذات قاعدة شعبية ضعيفة، وقد استفحل تهميش هذه الأحزاب بتغييبها عن المشهد الإعلامي العمومي. وباعتماد نظام الاقتراع على الأفراد لا على القوائم الحزبية في الانتخابات التشريعية والمحلّية الماضية، أمّا الشخصيات التي قد تترشّح من خارج المنظومة الحزبية، فإن حظوظها أقلّ وفرة، لغياب "الماكينات" الانتخابية القوّية المناصرة لها، ولافتقارها (ماعدا بعضها) للخبرة السياسية وللممارسة السلطوية، لكن يجب ألا ننسى، في هذا الإطار، أنّ الرئيس قيس سعيّد نفسه ترشّح من خارج المنظومة الحزبية، وكانت له حظوة لدى الناخبين أتاحتها له وسائل الإعلام التي وفّرت له الفرصة ليبرز في البداية أستاذاً جامعياً مثقّفاً متواضعاً، خبيراً في القانون الدستوري، متضلعاً من اللغة العربية الفصحى، وذا نزاهة ونظافة يدٍ وتعفّفٍ، وأكسبته هذه الصفات شعبية، فكان نموذجاً لما يتوق إليه الناخب في شخص رئيسه المُرتقب، فلا شيء يحول مبدئياً دون إمكانية استنساخ صور أخرى لمثل هذه الشخصية، من خارج منظومة الحكم والأحزاب، وأن تكون لها حظوظ وافرة في الانتخابات الرئاسية، إلا أنّ الظرف والزمن الانتخابيين الآنيين يجعلان إمكانية اجترار "التجربة القيسيّة" أمراً صعباً وغير واقعي، نظراً إلى أنّ المشهد السياسي والإعلامي لم يفسح المجال لبروز شخصيات عامة وازنة ومُؤثّرة، يمكن أن تكون ذات ثقل انتخابي.
يظلّ الرئيس الحالي الشخصية الأبرز التي نجحت بصورة راهنة في تحطيم خصومها وتقزيمهم، ويظلّ الناخب التونسي فريسة المجهول
وفي انتظار أن تكشف هذه الترشّحات بما تتمخّض عنه من مفاجآت، وأن تحاك قواعد اللعبة الانتخابية بشكل نهائي، يظلّ الرئيس الحالي الشخصية الأبرز التي نجحت بصورة راهنة في تحطيم خصومها وتقزيمهم، ويظلّ الناخب التونسي فريسة المجهول، فهل ستبرُز شخصية أخرى تضاهيه شعبيةً وحظوظاً انتخابية؟ وإن وجدت، هل ستكون قادرةً على الفوز في ظلّ الحملات الانتخابية السابقة لأوانها، التي بدأ الرئيس يخوضها في السرّ والعلن، وفي ظلّ تحكّمه في أجهزة الدولة ودواليبها، وفي ظلّ المخاوف من تسخيرها لخدمة حملته الانتخابية؟ فعلى الرغم من عدم تعبير الرئيس سعيّد صراحة عن نيّته الترشّح مجدّداً للانتخابات الرئاسية، فإن بوادر عديدة تشير إلى سعيه إلى ذلك، ورغبته غير المُعلنة في استكمال ما بدأه من مسار، وفي المضي به إلى برّ الأمان، فهو لا يزال في بداية بناء مشروعه السياسي الذي بذل في سبيله كلّ ما يملك من نفوذ وآليات وصدامات ومعارك، في الداخل وفي الخارج، وهذا المشروع، الذي يرتكز أساساً على البناء القاعدي، يتأرجح بين النجاح والإخفاق، ولا يمكن الحسم نهائياً في مدى انسجامه مع خصائص المشهد السياسي التونسي، ومقومات البناء النفسي والسوسيولوجي للشخصية التونسية، ولعلّ أهم ما يُحسب للرئيس الحالي لدى شريحة هامة من المواطنين هو استبعاده حركة النهضة، والإسلام السياسي بمختلف مكوناته، من الحكم، من جهة، ونزاهته وحسن نياته من جهة أخرى، أضف إلى ذلك كسبه ثقة المؤسّستين العسكرية والأمنية، وما أثمرتاه من نجاح في مقاومة الإرهاب واستتباب الأمن. لكن، ما مدى استدامة هذه المكاسب وتأثيرها على القرار الفردي الانتخابي، والحال أنّ بوادر الإقلاع الاقتصادي لم تلح بعد في الأفق، وبشائر تحسّن الوضع الاجتماعي والمقدرة الشرائية للمواطن لم يكتب لها الانبلاج، والقضاء على الفساد المستشري في البلاد لم يتحقّق بصورة فعلية، ولو في حدّه الأدنى، وطغت الشعارات أكثر من الأفعال والإنجازات، ولم يحل ذلك دون اقتناع الرئيس بصواب اختياراته وحسن مسعاه، ولم يدفعه ذلك، فيما يبدو، إلى القيام بمراجعات وتقييمات ضرورية عند انتهاء كلّ محطة انتخابية، فهو مستمر في التفرد بالقرار وإقصاء الخصوم والشركاء، على حدّ السواء، والدفاع المستميت عن توجّهاته وخياراته وأدوات فعله السياسي؟
لذلك، يبقى مصير تونس مُعلّقاً على هذه الانتخابات الرئاسية، من ناحية ضمان نزاهتها واستقلالية المُشرفين عليها، والمساواة الفعلية في الحظوظ بين جميع المُرشّحين، وتوفّر المناخ الانتخابي النقي والسليم، من ناحية، أمّا ما ستفرزه من نتائج فستكون لها، حتماً، تبعات جوهرية على نظام الحكم، وانعكاسات مباشرة على أوضاع العباد والبلاد، من ناحية أخرى.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية