مسعود بزشكيان... رئاسة معلّقة
لوهلةٍ، بدا الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وكأنّه نسخةٌ إيرانيةٌ عن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في بداياته. مثاليةٌ لم تعتدها طهران ولا محيطها. خطابات شاعرية ـ واقعية متمازجة بحِكَمٍ تُحاكي وقائعَ اجتماعية. أمنياتٌ بالتغيير لم يكن ليجرؤ أيُّ مواطن إيراني على التفكير فيها. رسائلُ مفعمةٌ بالبهجة شرقاً وغرباً، حتّى إنّه كان ينقص بزشكيان النطق بعبارة "صفر مشكلات" كي يبدو التحوّل السياسي في الساحة الإيرانية مُدوّياً. لم يكن ليستمر "الحلم" أكثر من بضعة أسابيع. اصطدم مَنْ عَقَدَ الآمال على بزشكيان بواقع صعب؛ حرس ثوري متمكّن في الداخل، سياسةً وعسكراً واقتصاداً، ومنظومة دينية ـ سياسية شبيهة بأيّ واحدة مماثلة في العالم، رافضةً التنازل عن قشورٍ كي لا تُجبَر على التنازل لاحقاً في الجوهر. بدا بزشكيان وكأنّه مُجرَّد راكبٍ في قطار، لا قائده. من دعمه طوال المعركة الانتخابية لرئاسيات 28 يونيو/ حزيران و5 يوليو/تمّوز الماضيَين، خرج من الدائرة الضيّقة إلى رحاب الجامعات. صاغ محمد جواد ظريف زرادشتيةً محسوبةً في خروجه من صراع الأجنحة داخل الوسط السياسي الإيراني.
لم يعد أمام بزشكيان فعلياً سوى حلّ من اثنَين: الاستمرار بالأدوات الممنوحة له من النظام أو المغادرة. وبما أنّه براغماتي، أي ساعٍ إلى إتمام ولاية رئاسية من أربع سنوات، فإنّ فكرةَ الاستقالة وترك السلطة غيرُ واردةٍ لديه، خصوصاً أنّها قد تُؤدّي إلى ضرب المعسكر الإصلاحي برمّته. أمّا الاستمرار في الحكم بعصا الدولة العميقة في طهران، فقد يفتح آفاقاً مستقبلية له للحلم بولاية رئاسية ثانية، لكنّه أيضاً سيُسهم في تصدّع الإصلاحيين. لا يزال الوقت مُبكّراً على مثل هذه الحسابات، فطهران تُشبه إلى حدٍّ ما مرحلةَ ما بعد ثورتها في عام 1979، فتشابكت الملفّات كلّها، من تصدير الثورة إلى زوايا الشرق الأوسط، والحرب مع عراق ـ صدّام حُسين، والتصفيات الداخلية، قبل صفو الأجواء نسبياً أمام الرئيس الثالث في زمن الثورة، المُرشد الحالي علي خامنئي، بين عامي 1981 و1989.
في تلك المُقاربة، بدت شخصية خامنئي أساسيةً لمواكبة حدثَين أساسيَين: وفاة أبو الثورة، المُرشد روح الله الخميني في 1989، وتمرير تداعيات الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988). المُفارقة اليوم أنّ ما بُني من ركائزَ خدمت النظام طوال مرحلة ما بعد عام 1989، باتت في حاجة إلى تجديد أو قراءة مختلفة. ولعلَّ ما عُرف بـ"الثورة الخضراء" في عام 2009، شكّل إنذاراً فعلياً للوسط السياسي الإيراني في الداخل، الذي عاد وفتح نصف نافذة مع فوز حسن روحاني برئاسة البلاد في عام 2013، ثم توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، قبل سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بلاده منها في عام 2018. اليوم، وبعد ستّ سنوات من عرقلة الاتفاق النووي، ضاق الأفق أمام طهران، بما يوحي أنّها أمام دفعة صغيرة قبل فقدان السيطرة. لكنّه يبقى إيحاءً، على قاعدة أنّه سابقاً كان التفكير السياسي الإيراني أكثر برودةً ممّا هي الحال عليه الآن. كان يُمكن مناقشة أقصى اليمين في طهران بلا قفّازات، فيما اليوم بات أمثال حسن سلامي وإسماعيل قاآني أكثر حضوراً في صياغة القرارات السياسية ممّا كانت عليه الحال مع ظريف، وحتّى علي باقري كنّي.
وسط هذه الضوضاء، يبدو بزشكيان وكأنّه في موقع لا يشبهه. لا هو قادرٌ على فرض رأيه في تشكيل حكومة مقبولة ممّن انتخبه، ولا في وسعه الاعتراض على أسماءَ وزاريةٍ فرضتها الدولة العميقة في طهران. تبرز هنا الإشكالية الأهم، ماذا لو أدّى ذلك إلى ظهور اضطرابات في الشارع، وتكرَّرت مشاهد القمع بصورة مشابهة لقمع عامي 2009 و2022، في طهران؟ ما الذي سيكون عليه موقف بزشكيان الذي اعترض على ممارسات الأمن الإيراني في هاتَين المحطَّتَين؟... لا يمكنك أن تحسُد بزشكيان.