مسيرة الجزائر في الذكرى الستين للاستقلال
تحيي الجزائر اليوم، في الخامس من يوليو/ تموز، الذكرى الستين للاستقلال واسترداد السيادة الوطنية والحرية التي دافع عنها الجزائريون منذ وطئت بلادَهم أقدام الفرنسيين. انتزعوا الاستقلال بعد حربٍ دامت أكثر من سبع سنوات واستشهاد مليون ونصف مليون من الجزائريين من أجل إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية، كما ورد ذلك في بيان أول نوفمبر 1954، من أجل ميلاد مجتمع جديد ودولة جديدة.
ما هي أهم ملامح الجزائر بعد ستين عاما من الاستقلال؟ تتميز مسيرة الجزائر طوال العقود الستة المنقضية عموما بالحركة والتغيير الدائمين اللذين شملا مجالات مجتمعية حيوية عديدة من خلال تحولات الواقع السكاني ومنظومة القيم، وتحولات بنية الاقتصاد والفلاحة، والتحولات العمرانية في المدن والأرياف. في المقابل، عرفت جوانب مؤسساتية وسياسية وإدارية حركة سكون لا نظير لها، لتعجز مؤسسات الدولة عن مواكبة الديناميات الاجتماعية المتعدّدة، لينتج من هذا الوضع توسّع الهوة بين الحاكم والمحكوم، من خلال توسع مقاطعة الجزائريين لمختلف الاستحقاقات، كما حدث ذلك في الانتخابات التي عرفتها البلاد أخيرا. وتجمع مسيرة الجزائر كذلك بين إنجازات وإخفاقات تنموية عديدة، لا يمكن إنكار أي منهما أو المبالغة فيهما.
عرف الواقع السكاني في الجزائر منذ 1962 تحولات متعدّدة، لعل من أبرزها ارتفاع عدد السكان، حيث بلغوا سنة 2021 (عدد تقديري) 45 مليون نسمة، وكانوا غداة الاستقلال لا يتجاوزون 12 مليونا، أي بزيادة 30 مليونا خلال 60 سنة، وهي زيادة يراها رسميون عديدون عائقا للتنمية. وترتب عن ارتفاع العدد تحوّل في البنية العمرية للجزائريين، فاليوم يمثل الشباب الجزائري (15 - 24 عاما) 13,31٪ من إجمالي السكّان، في حين يمثل النشطون اقتصاديا (15- 60 ) 72% من إجمالي السكان، أما الفئة العمرية، أكثر من 70 سنة فلا تمثل إلا 4,2% من إجمالي السكان، ليبرز بذلك الطابع الشبابي للبنية السكانية للجزائر، وتوسّع حجم من هم في سن العمل والعطاء. ولعل ما يميز الواقع السكاني في الجزائر اليوم ارتفاع عدد المهاجرين والمقيمين الجزائريين في الخارج، فمن بضعة آلاف غداة الاستقلال ارتفع عدد الجزائريين المقيمين في الخارج إلى حوالي 4,5 ملايين سنة 2021.
ما يميز مسيرة الفرص التنموية طوال العقود الأخيرة سعي الدولة ومؤسساتها إلى المحافظة على الجانب الاجتماعي للدولة، أو لشراء السلم الاجتماعي كما يدّعي بعضهم
وترتب عن تحولات الواقع السكاني والاجتماعي والاقتصادي بروز ديناميات اجتماعية مختلفة، شملت تحوّلات في بنية الأسرة الجزائرية، وسّعت المشاركة الاقتصادية والمجتمعية للمرأة الجزائرية وارتفاع الهجرات الداخلية في الجزائر، وبروز فاعلين اجتماعيين جدد وحيوية المجتمع المدني. يضاف إلى هذا بروز ديناميات عمرانية جديدة في مختلف ولايات الجزائر ومدنها وأريافها، من خلال تحوّلات واقع المدن وبنياتها، والتوسّع المتواصل للمناطق العمرانية التقليدية، وميلاد تجمّعات حضرية جديدة لامتصاص الزيادة السكانية. لينتج من هذه الديناميات العمرانية ميلاد مناطق حضرية جديدة تتميز بكثافة سكانية مرتفعة، وبسرعة نمو أنشطتها الاقتصادية، وخدماتها التجارية.
وتطلب توسع عدد سكان الجزائر منذ الاستقلال ضرورة توفير جملة من الخدمات، خصوصا المرتبطة بتوفير فرص تعليمية للأجيال الجديدة من الجزائريين، وتوفير فرص علاج مجانية ومناسبة وضمان تغطية اجتماعية للجزائريين، يضاف إلى ذلك توفير خدمات اجتماعية عديدة لفئات اجتماعية متعدّدة، فاليوم توفر المنظومة التعليمية مقاعد تعليمية لحوالي ربع سكان الجزائر، وذلك في مختلف المستويات التعليمية. أما القطاع الصحي، فإنه يوفر خدماته في مختلف ولايات البلاد، ولو بمستويات متباينة. واستفاد قطاع السكن من برامج مختلفة، من أجل توفير مئات آلاف من المساكن لفئات مختلفة من الجزائريين. واستفاد الشباب من فرص تمكين مختلفة من خلال برامج تشغيل الشباب والاستثمار، يضاف إلى ذلك توسّع قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ولعل ما يميز مسيرة الفرص التنموية طوال العقود الأخيرة سعي الدولة ومؤسساتها إلى المحافظة على الجانب الاجتماعي للدولة، أو لشراء السلم الاجتماعي كما يدّعي بعضهم. ولكن هل تتوافق التنمية التي تحققت فعليا مع حجم التطلعات وحجم المبالغ المالية العمومية التي تم استثمارها؟ وهل نتائج تلك الاستثمارات وصلت بصفة عادلة إلى مختلف مناطق الجزائر من دون تمييز، تفاديا لمناطق الظل؟ يشهد حجم الفساد والتلاعب بالمال العام كما أبرزته التحقيقات التي باشرتها الأجهزة المختصة منذ 2020 على الهدر الممنهج للمال العام في الممارسات المؤسساتية، وإلا كيف يمكن تبرير إنفاق 443 مليار دولار فيما بين العامين 2001 و2014 على إنعاش الاقتصاد الوطني الذي لا يزال يعاني من تحدّيات مختلفة، بالإضافة إلى افتقار ولايات عديدة إلى مستشفيات. يضاف الى ذلك ضعف توظيف الشباب، حيث لا يزال آلاف من الشباب يبحثون عن وظائف شغل لائقة، كما هو حال واقع شباب ولايات الجنوب التي تعرف مستويات بطالة لا مثيل لها. ولهذا لم يكتمل مسار التنمية في الجزائر، رغم توفر الموارد المالية.
المراجعات مطلوبة، بل وضرورية، في أي عمل مؤسساتي من أجل توسيع فرص نجاح البرامج الحكومية
لعل ما ميز مسيرة التنمية الطموحة في الجزائر، والتي لم تكتمل إنجازاتها، تحول مرجعيتها وعقيدتها، فبعد أن اعتمدت الجزائر، بين نهاية ستينيات القرن الماضي وثمانينياته، على التنظيم المركزي للتنمية، المبني على المخططات التنموية التي رُصدت لها أموال هائلة، عرف مسار التنمية منعطفاً جديداً من خلال التوجّه نحو نظام تنموي تحكمه آلية السوق، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، التوجه الذي تدعم بموجة واسعة من خصخصة المؤسسات الحكومية وإعادة هيكلتها في بداية تسعينيات القرن الماضي، لتعرف الجزائر في مطلع الألفية الجديدة مقاربة تنموية جديدة، تقوم على اعتماد برامج خاصة لإنعاش اقتصادي، تماشيا مع أهداف السياسة الاقتصادية الجديدة للدولة، والتي جنّدت لها مبالغ مالية استثنائية، فعلى سبيل المثال، قدّرت ميزانية البرنامج التنموي 2010 – 2014 بـ 286 مليار دولار، وهي أضخم ميزانية لبرنامج تنموي منذ الاستقلال.
المراجعات مطلوبة، بل وضرورية، في أي عمل مؤسساتي من أجل توسيع فرص نجاح البرامج الحكومية، ولكن التحولات المتتالية في مقاربة التنمية في الجزائر لم تكن نتيجة مراجعات مؤسساتية، بل هي تعبير عن إدارة واقع البلاد والعباد ومستقبلهما، وتسيير المال العام، وفقا لشخصنة القرار السياسي، من دون دراسة مسبقة أو مشاورات، وهو ما يبرّر وحده الإخفاقات المتتالية التي دفع ثمنها الجزائريون في العقود الأخيرة، من خلال تضييع فرص تنموية متعدّدة، كان بإمكانها المساهمة في استدامة التنمية في الجزائر.
اعتماد لغة الحوار أسلوبا ثابتا للحكم، وكذلك رفع جميع ملامح القمع والتخويف، سيقللان تدريجاً من انعدام الثقة بين الحكام والمحكومين
تختلف الجزائر اليوم، في بنيتها السكانية والاجتماعية، بل وحتى الاقتصادية أيضا، عن الجزائر ما بعد الاستقلال والجزائر مطلع الألفية الثانية، فيتطلب إحياء ذكرى الاستقلال بعد مرور 60 سنة، وقفة متأنية من أجل طرح المراجعات المطلوبة وإقرار الإصلاحات الضرورية، فالجزائر اليوم التي غالبية سكانها ممن ولدوا في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي عرفت ديناميات اجتماعية وثقافية، بل وحتى قيمية، تختلف عن مرجعيات الآباء والأجداد، تتطلب اعتماد لغة الحوار في إدارة الشأن العام، من أجل إدماج المواطنين في الحياة العامة. يضاف إلى ذلك تشجيع المبادرات المحلية في إدارة الشأن العام، ففي زمن تتعدّد فيه المخاطر والتحدّيات، تتطلب تنمية المجتمع، وكذا إنجاح العملية السياسية، تجاوز الممارسات التقليدية، والتوجّه نحو نظامٍ يقوم على اعتماد الحوار أداة عمل وتواصل مع المواطنين، وإحداث انفتاحٍ في العمل السياسي والمؤسّساتي، يقوم على روح المبادرة والشجاعة السياسية. لهذا، يمكن اعتبار الحوار والشجاعة السياسية من أهم مقوّمات نمط حكم الغد ودعائمه، من أجل تهيئة أفضل الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية للأجيال المقبلة من الجزائريين، الذين سيصل عددهم إلى ما يقرب من 61 مليوناً عام 2050 وفقاً للأمم المتحدة، فمن من غير المقبول أن تُورّث الممارسات المؤسساتية الحالية للأجيال القادمة من الجزائريين.
ومؤكّد أن اعتماد لغة الحوار أسلوبا ثابتا للحكم، وكذلك رفع جميع ملامح القمع والتخويف، سيقللان تدريجاً من انعدام الثقة بين الحكام والمحكومين، كما يسهم في التوجّه نحو تطبيع تدريجي للعلاقات بين المؤسسات السياسية والمواطنين الجزائريين، ويبعد الجزائر عن أزماتٍ محتملة، ويقلّل من حجم التوترات.
إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية، كما ورد في بيان أول نوفمبر 1954، ميلاد مجتمع جديد ودولة جديدة، هما مشروع متواصل، يتطلب اجتهاد أجيال مختلفة من الجزائريين ومشاركتهم. وتقوم هذه المشاركة على اعتماد قواعد حوكمة جديدة، من دون أن يؤثر ذلك على سيادة الدولة، لأن الجزائر في حاجةٍ إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، ينطلق من تحدّيات الوضع الجديد وإسقاطاته المستقبلية. لهذا، يجب أن يكون الاحتفال بعيد الاستقلال فرصة لفتح حوار حقيقي وشامل، من خلال إقامة مشاورات وطنية بشأن تحديث الدولة ومؤسّساتها.