مشكلة دستور قيس سعيّد ليست في الإسلام
في الخبر التونسي هذه الأيام كثير من الكوميديا السوداء. الديكتاتور الذي تكبر الحاجة لفحص حالته العقلية لا يترك ميداناً إلا ويعبث فيه مسنوداً بأجهزة الأمن والجيش، ويجهد لمحو كل ما يذكّر بالديمقراطية التونسية ومنجزاتها، فتأتيه الهدايا بالجملة من خصومه. رست عبقرية قيس سعيّد على أن محاربة حركة النهضة، والإسلام السياسي عموماً، تكتمل بعدم ذكر الإسلام ديناً للدولة في الدستور، فتصرّف كذلك الرجل المخدوع الذي طردته زوجته من المنزل، فأخذ معه فستان عرسها لكي لا تفكّر في الزواج من غيره خلال غيابه. ولكي تكتمل النكتة، برّر قيس سعيّد قراره بأن الدولة "ذاتٌ معنوية كالشركة أو المؤسسة، والشركة لن تمر على الصراط يوم القيامة"، بالتالي ليس من باب الاحترام للإسلام تضمينه في دستور شيء حقير كالدولة.
لو كان قرار قيس سعيّد نابعاً من قناعة علمانية، لكان غُفرت له بعض الجرائم التي يرتكبها منذ ما قبل 25 يوليو/ تموز 2021. لكن الرجل لا هو علماني ولا من يحزنون، بل يقف على يمين "النهضة" في القناعات الدينية المحافظة. مع ذلك، أصرّ على حذف الفصل (الإسلام دين الدولة) الذي وضعه الحبيب بورقيبة نفسُه في دستور عام 1959. حتى عبد الفتاح السيسي لم يسبقه إلى ذلك. لكنّ ضحالة ما يتفوّه به قيس سعيّد، بدل أن تزيد من عدد رافضي بقائه، فإنها تعمّق انقسامات هؤلاء وتفاقم تيههم. منذ رمى سعيّد ومعه كاتبه، الصادق بلعيد، حكاية شطب الإسلام دينا للدولة، هجم جماعة "يا غيرة الدين" على الساحة، وصارت الأزمة تكمن في تغييب تلك الإشارة الرمزية بدل أن تكون المصيبة هي وجود الرجل بحد ذاته وعبثه بالمؤسسات والدستور وإلغاء مكتسبات التونسيين الديمقراطية، وإهانته الشعب في كل كلمة ينطق بها وكل حركة تصدر عنه. غاب النقاش الجدّي في أولوية مقاطعة استفتاء 25 يوليو المقبل على الدستور أو المشاركة الكثيفة فيه تصويتاً رافضاً، فصار الدفاع عن الإسلام هو الجهاد الأكبر، وكأنّ الإسلام أو أي دين آخر يحتاج إلى فريق دفاع أو كأنّه يفنى في حال لم يذكره دستور. تراجعت جهود جمع الجبهات المعارِضة لقيس سعيّد في إطار واحد، وكاد إسلاميون كثر يقولون إنه في حال تراجع سعيّد عن شطب "الإسلام دين الدولة"، فإنهم ربما يقبلون بدستوره.
ولمّا كادت هيصة "الإسلام دين الدولة" تخفت، رمى فريق الرئيس مادّة أخرى للاستهلاك وللإلهاء، سرعان ما نجحت في إنجاز المطلوب منها: مشروع الدستور الجديد سينص في التوطئة على أنّ تونس تنتمي إلى الأسرة العربية الإسلامية، كما أخبرنا أمين محفوظ، عضو الهيئة الاستشارية لصياغة دستور قيس سعيّد، لتُكمل الحدّوتة تلك مسلسل خرافة "الأمة التونسية". وعندما يكثر المتحدثون، يختلط الصالح بالطالح، فيضيع ما يقوله رئيس اللجنة التأسيسية التي صاغت النظام السياسي في دستور 2014، عمر الشتوي، إنه "لا وجود لأمة تونسية، بل أمة عربية، والأمة التونسية جزء من الأمة العربية".
مَن يجد أن مشكلة قيس سعيّد الرئيسية اليوم تكمن في شطبه مرجعية الإسلام من دستوره إنما هو الوجه الآخر لهذا الرئيس في دفن السياسة بما هي الحل لأزمات أي بلد. من يجد أن مشكلة قيس سعيّد الرئيسية اليوم تكمن في شطبه مرجعية الإسلام من دستوره المسخ، يخدم قيس سعيّد أكبر خدمة، فهو ينقل النقاش من الحقيقي إلى المتخيَّل، من المتن إلى الهامش، من أنه ممنوع رمي دستور 2014 الذي كُتب ونوقش وحُضّر بمهنية وديمقراطية وحرية نادرة، بفصوله الـ149، إلى افتعال انقسام وهمي مبني على شيء غير موجود، ويجب ألا يكون موجوداً.
نقاش الإسلام دين للدولة من عدمه هو شراء للسمك وهو في البحر، وسمك من هذا الصنف لا يُشبع جائعاً، ولا يبقى منه إلا ذاكرة عمرها تسع ثوانٍ كما يقول العلماء. يرمي لنا قيس سعيّد صنّارة مرجعية الإسلام، فننسى جرائمه التي لا يتسع لها بحر.