مشوار رمضاني في عمّان الغربية
طقس مدهش هذا الرمضان في عمّان، درجات حرارة معتدلة، لم يخلُ من أيامٍ غائمةٍ مُمطرة. لم يعد الصائمون يتذمّرون مثل الأعوام السابقة من شدة الحر وحدّة الإحساس بالظمأ. حافظت السيدة الوحيدة على عادتها بممارسة رياضة المشي ساعةً على الأقل قبل موعد أذان المغرب، قالت لها مدرّبة محترفة، تعمل في المركز الرياضي الذي هجرته لأنها ضاقت ذرعا بالأجهزة الصمّاء والجدران المغلقة، إن المشي ليس رياضة حقيقية، لأنها لا تحرق ما يلزم من السعرات. لا تصدّق هذا الطرح، بل تشكّك في نوايا المدرّبة التي تحصل على نسبةٍ حين تستقطب مشتركة جديدة. يروق لصاحبتنا إيقاع الشوارع في تلك الساعات، تتسلّل إلى أنفها رائحة الأطعمة الشهية، من البيوت التي تمشي بمحاذاتها. تحاول أن تحزر نوع الطبخات المجهّزة في تلك البيوت الصاخبة المتأهّبة لوجبة الإفطار، بيت تخرج منه رائحة الملوخية، صوت "طشّة" الثوم والكزبرة يصل إلى أسماعها، وآخر يتراكض الصغار أمام باحته الفسيحة، وقد فاحت منه رائحة الجميد والسمن البلدي.
يقرص الجوع معدتها، تحاول صرف انتباهها عن الروائح التي ملأت حواسّها، تتنبه إلى بسطة القطائف المنصوبة أمام الفرن. ثمّة طابور طويل من المشترين المتعجّلين. تتذكّر مقطع فيديو انتشر أخيرا على نطاق واسع لبائع قطائف نصب بسطته أمام واجهة محلّ لبيع الخمور، أبوابه مغلقة في الشهر الفضيل، فأثارت تعليقات غاضبة كثيرة. تداري ضحكتها كي لا يظنّ بها المارّة الجنون. غبطت نفسها كونها ليست من محبي القطائف، لا ترى فيها سوى صنف حلوى عادي. يكفيها أنها من عشّاق السمبوسك المقلي، وهو طبق دائم في رمضان على طاولات الأردنيين بكل حشواته: الجبن، اللحم، الخضراوات، إضافة إلى طبق الفتوش وشوربة العدس، مفرداتٌ أساسيةٌ لا بد من وجودها مقدماتٍ ضروريةً للطبق الرئيسي. يلفت نظرها الباعة الصغار المنتشرون بين البيوت، ويعصرون البرتقال والليمون أمام الزبائن، يبيعونهم كذلك مشروبات رمضان التقليدية من قمر الدين والسوس والتمر الهندي.
تصل السيدة إلى شارع فسيح كثير الأشجار، تراقب المارّة رجالاً ونساءً من مختلف الأعمار، يُزجون الوقت بصبر كثير إلى حين موعد الإفطار. يضع الشبان والفتيات السمّاعات، يستمعون إلى موسيقاهم الصاخبة. ينهمك بعضهم في مكالمات هاتفية طويلة، يبدون من بعيد كمجانين يحادثون أنفسهم، قبل أن تقترب منهم وتلاحظ السمّاعات الصغيرة مثبته داخل آذانهم. تهتف سيدةٌ مسنّة تسير ببطء متّكئة على يد امرأة أربعينية. تقول المسنّة بغضب: "طبعا، بدّي أسجل الدار باسم أولادي، ليش الغريب يورّثني". تتجاوزهن مسرعة، وقد لاحظت تعبير القهر على وجه الأربعينية التي لاذت بالصمت. تصبح بمحاذاة رجل وامرأه يمشيان بتوتّر جليّ. يقول الرجل بعصبية: "هيني عملتلها بلوك خلص بيكفّي نقّ"، حدّقت مليا في وجه المرأة، تبدو لها غاضبة ومرتابة. توشك أن تقول لها لا تصدّقيه سيضيفها من جديد باسم مستعار، لا تكوني غبية. تضبط نفسها بصعوبة، قبل أن تخرب بيتهما بتطفّلها. تغذّ الخطى، وقد اقترب موعد أذان المغرب. تسمع سيدة تقول لصديقتها بلهجةٍ لم تخلُ من شماتة وغبطة: "سِلفتي حردانة عند أهلها من أول رمضان. تركت البيت عشان جوزها بدّه يتجوز عليها، وأبوها حلف يمين بنته ما ترجع، وخلّي العروس تربّي الأولاد".
واصلت السيدة المشي، وقد بدأت الشوارع تفرغ من المارّة. احتشد رأسها بالروائح والأصوات والحكايات الحزينة. تتمتم بصوت خافت، وهي تدسّ المفتاح في باب بيتها الفارغ المظلم "رمضان كريم".