مصالحة لتكريس الانقسام
يبدو أن النظام السياسي الفلسطيني، الموزّع بين مرجعيتين وجغرافيتين وسلطتين وبندقيتين، ذاهبٌ بعد لقاء إسطنبول نحو تحقيق مصالحة، مشروطةٍ بتحقيق مزيد من التوافقات والتفاهمات والضمانات المسبقة، بين حركتي فتح وحماس، ليس على الآجال الزمنية الملزمة لإجراء انتخاباتٍ متتالية لكل من المجلس التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني، وإنما أساساً على القواعد والمبادئ واللوائح والآليات والمحدّدات، وربما على توزيع الحصص والقوائم والمقاعد والنتائج المتوخاة من هذه العملية التي يقف في طريقها فيضٌ من المصاعب والإشكالات والتحدّيات.
وفقاً لمخرجات لقاء إسطنبول، يبدو أن الحركتين المتنافستين على مقاليد سلطةٍ ليست بسلطة، وعلى ملكوت مقاومةٍ لم تعد تقاوم، كانتا معنيتين فقط بتحقيق مصالحةٍ أقرب ما تكون إلى أعراف الحمائل وتقاليد القبائل، القائمة على التراضي والمسامحة وثقافة عفى الله عما مضى، فلم يتطرّقا إلى مسألة إنهاء الإنقسام الذي بات، على ما يبدو، حقيقةً مريرةً مسلّما بها، من بين حقائق عديدة يعجّ بها واقعٌ طافحٌ بالمرارات على كل صعيد، ليأتي هذا اللقاء المسبوق بعشرات اللقاءات المماثلة، بمثابة خطوةٍ صغيرةٍ إلى الأمام، وخطوتين كبيرتين إلى الخلف، مكرّستين واقع الحال.
يصح وصف المسعى المشترك بين قطبي الحالة الانقسامية الفلسطينية التي أفرزت، مع الزمن، جملة من المصالح والقوانين والحقائق المغذّية لجذر شجرة الانقسام، على أنه محاولة لتسكين الألم المزمن بالمهدّئات، وتدوير زوايا الحالة المسكونة بنزعة الاتهامات المتبادلة، والكباش على كل شاردةٍ وواردة، ناهيك عن التنازع على الأحقية والصواب والتمثيل والشرعية، تمهيداً لإعادة إنتاج نظامٍ سياسيٍّ مُعدّل، يقوم على مفهوم المحاصصة، فيه إقرارٌ ضمنيٌّ بمعادلةٍ قوامها غلبة سلاح "حماس" في غزة، وتسليم بوحدانية السلطة الوطنية وشرعيتها في الضفة الغربية.
ينطوي هذا التقاسم الوظيفي، المقدّر له أن يُصاغ في إطار مباحثات ثنائية تصر حركة حماس على إبرامها قبل إعطاء الموافقة النهائية على إجراء الانتخابات، على إنجازٍ ذي مغزى لحركة حماس التي تمكّنت من فرض نفسها حقيقةً سياسية نهائية في غزة، وصاحبة سلطة أمر واقع لا يشقّ لها غبار، وعنواناً رسمياً كان مطلوباً لذاته من قوات الاحتلال، لمخاطبة الآمر الناهي وحده في القطاع المحاصر، سواء بالحديد والنار، أو بالترغيب والترهيب الدائميْن، بما في ذلك تحميل الحركة الممسكة بقبضة أمنية ثقيلة مصائر مليوني إنسان المسؤولية الحصرية عما يحدث انطلاقاً من القطاع.
ومع أن سلطة الأمر الواقع هذه لم تنل اعترافاً دولياً يحقّق لها اختراقاً، ويفتح كوّة في الحائط المسدود، ولم تنتزع شرعية يعتدّ بها طوال 14عاماً مثقلة بالآلام والدماء والعناد، إلا أنها ظفرت بالرعاية الكافية للبقاء على قيد الحياة، وبالتمويل متعدّد المصادر، وإن كان شحيحاً، وظلت تراهن على حدوث متغيراتٍ مواتيةٍ قد تأتي بها الأقدار، إلى أن زلزلت الأرض بصفقة القرن والضم والتطبيع، فقدّمت حركة فتح، وهي أم الولد، التنازل المطلوب، التسليم بسيطرة خصمها اللدود على غزة، مقابل إجراء انتخاباتٍ غايتها الأولى تجديد شرعية المؤسسة الفلسطينية.
في أسوأ التقديرات المبنية على خبراتٍ وتجارب سابقة، وخيبات أملٍ متراكمة، غير مستبعد أن يتوقف المسار كله عند نقطة البداية، إذا وجدت استطلاعات حركة حماس أن رياح الانتخابات لن تهبّ في صالح أشرعة سفينتها، ولن تجدّد لها الأغلبية في المجلس التشريعي، ولا تزيد من مركزيتها الحاسمة في القطاع، لتنقلب مرة أخرى على نفسها، بطلب مزيدٍ من الوقت المستقطع، لإجراء مزيدٍ من الحوارات والضمانات والمراجعات، ووضع ما تيسّر من التحفظات والاستدراكات، فان لم يُستجب لها قد تلجأ إلى التصعيد مع الاحتلال، في توقيتٍ يقوّض خيار إسطنبول.
ولعل أفضل السيناريوهات المتوقعة أن تجري انتخابات المجلس التشريعي من غير تأخير، لتقرّر حركة حماس مواصلة المرحلة الثانية، إذا ما أتت نتائج الصناديق ملائمة لحساباتها، ومرجّحة لأوزانها. أما إذا جاءت النتائج على غير ما تشتهي الحركة التي لا تعرف القسمة على اثنين، ولا الحل الوسط، فالمحتمل أن تطعن الحركة، التي لم يسبق أن أجرت انتخاباتٍ بلدية أو حتى طلابية تحت سلطتها المطلقة، بالعملية كلها، وأن تتهم السلطة بالتزوير والتلاعب، ومن ثمّة الدخول في دوامة خلافاتٍ أشد، وبالتالي رفض الانخراط في الجولة الثانية المخصّصة لانتخابات الرئاسة.