مصر بين سد النهضة وثورة يناير
مع كل أزمةٍ تتفاقم في مصر، يظهر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ليحمّل ثورة يناير المسؤولية عن تلك الأزمة، بل ومتهما إياها بأنها كانت تهدف إلى الفوضى وهدم الدولة، ولولا تدخل الجيش في 30 يونيو/ حزيران 2013 لتفكّكت الدولة، على حد تعبيره. ولعل هذا الخطاب الذي يهدف إلى شيطنة ثورة يناير هو امتداد لاستراتيجية المجلس العسكري الذي أدار البلاد في الفترة الانتقالية، وسعى، منذ اللحظة الأولى، إلى شيطنة الثورة، وتأليب الأغلبية الصامتة عليها واتهامها بإحداث الفراغ والانهيار الأمني في الشارع. لقد تحوّل الأمر، مع الوقت، إلى نوع من الهاجس الذي يحيط بخطاب الرئيس في كل مناسبة، بل ذهب أبعد من هذا، حينما قال في خطابه، بعد تحرير السفينة العالقة في قناة السويس، إن أزمة سد النهضة ليست هي المشكلة الكبرى التي تواجه البلاد، بل الاستقرار هو أكبر تحدّ يهدّد مصر وليس العطش. بعدها بأيام قليلة، لم يفوّت الرجل الفرصة، ليهاجم مجدّدا ثورة يناير، فيتهمها بأنها سبب بناء سد النهضة الإثيوبي. وهنا يقفز الرجل على حقائق التاريخ والواقع، باتهامه "يناير" هذا الاتهام الخطير، في محاولة منه للهروب من تحمّل المسؤولية بشأن فشل نظامه في إدارة أزمة السد، أو التورّط في التوقيع على إعلان المبادئ، والذي تم برعاية إماراتية بواسطة مباشرة من محمد دحلان، كما ذكرت "نيوزويك"، في أحد مقالاتها عن الدور الذي لعبه الأخير في التوقيع على الإعلان. وعلى الرغم من هذا الخطاب التضليلي الذي يحاول أن يقدّمه السيسي هناك حقائق مهمة يجب ذكرها.
مشروع بناء سد النهضة إثيوبي منذ عشرات السنين، وكان بإيعاز أميركي ردا على جمال عبد الناصر ومشروعه بناء السد العالي
أولا، إن مشروع بناء سد النهضة إثيوبي منذ عشرات السنين، وكان بإيعاز أميركي ردا على جمال عبد الناصر ومشروعه بناء السد العالي. وكان المخطط حينها أن تكون السعة التخزينية خلفه عشرة مليارات متر مكعب، ثم تم رفعها إلى 14 مليار متر مكعب، ووصلت الآن إلى 75 مليار متر مكعب. ثانيا، بالتوازي، هناك ثلاثة سدود تزمع إثيوبيا تشييدها، وبدأ التخطيط لها قبل 2011، سعتها التخزينية إلى جانب سد النهضة مائتا مليار متر مكعب، ما يعني أن إثيوبيا قادرة على تجفيف النيل في مصر، وعدم وصول أي نقطة ماء إليها في أربع سنوات كاملة، ما يترتب عليه مجاعات وخراب ودمار، وعدم وجود كهرباء، لأن السد العالي حينها لن تكون لديه القدرة على توليد الكهرباء، لعدم وجود مياه في بحيرته الخلفية التي تتسع لـ160 مليار متر مكعب. ثالثا، في مايو/ أيار 2010، وقعت ست دول من دول حوض النيل (إثيوبيا، أوغندا، كينيا، تنزانيا، رواندا، بورندي) على اتفاقية عنتيبي، وتنص على إنهاء الحصص التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل، المنصوص عليها في اتفاقية 1959، بغرض إنهاء اتفاقيتي 1902 و1959. وقد تم هذا بإيعاز من الجانب الإثيوبي، ورفضت كل من مصر والسودان هذه الاتفاقية. خامسا، انتهت الحكومة الإثيوبية، في أغسطس/ آب 2010، من أعمال المسح الخاصة بالمنطقة التي سيقام عليها السد (منطقة بني شنقول). وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، انتهت إثيوبيا من تصميم سد النهضة، وأعلنت عزمها على التنفيذ. وفي إبريل/ نيسان 2011 بدأت إثيوبيا في التنفيذ.
بقاء النظام الأولوية المقدّمة على أي شيء، ولو على حساب قضية نهر النيل
إذاً، لا دخل لثورة يناير أو ما حدث فيها بسد النهضة، بل هو سابق عليها، كما أن شروع إثيوبيا في التنفيذ كان في إبريل/ نيسان 2011، أي في الفترة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري، وكان السيسي أحد أعضائه، وبالتالي يتحمّل المسؤولية عنها. إلى جانب أن حسن النيات مع الجانب الإثيوبي، وتحليف رئيس الوزراء الأثيوبي، آبي أحمد، اليمين، أحد الأسباب فيما وصلت إليه الأمور. وليست "يناير" التي وقّعت على ما يسمى إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان، وكان بالكامل على الأرضية الإثيوبية، وذهبت مصر إليه وهي نائمة، من دون ضمانات من الجانب الإثيوبي ولو بنسبة 1%. أعطى هذا التوقيع مشروعية لسد النهضة، ولإثيوبيا في أن تحتجز ما تشاء من مياه خلف السد، من دون الانتباه إلى حصص مصر التاريخية، حيث لم يتضمن هذا الإعلان ذكر أي حصص لمصر في مياه النيل، كما أنه لم ينص على أي شيء يتعلق بآليات الملء وفتراته والسعة التخزينية. وهذا ما أتاح للجانب الإثيوبي الشروع في عملية الملء الثاني من دون أن يكترث لمصر، لانتفاء ما يلزمه بذلك. وهو أيضا ما جعل مصر والسودان يطالبان بضرورة وجود اتفاقية ملزمة لملء السد وتشغيله.
كان التوقيع على "إعلان المبادئ" الصك الذي منحت به مصر المشروعية والشرعية لبناء هذا السد وتشييده، وقد أدرك الجانب الإثيوبي حينها أن الجانب المصري قد تورّط في هذا الإعلان، لذا تمسك به وما زال، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل المفاوضات، وجعلت أديس أبابا تستغل الوقت وتستثمره لصالحها، وتنتهي من معظم الإنشاءات في السد، بل وتنتهي من المرحلة الأولى في الملء، وتستعد للثانية، من دون أن تعير النظام المصري أي اهتمام. وعلى الرغم من كل هذه الأخطاء القاتلة التي ارتكبها نظام عبد الفتاح السيسي في المفاوضات مع إثيوبيا، إلا أنه يصر كل مرة على تعميق الانقسام السياسي، في وقت تحتاج مصر فيه إلى توحيد الجبهة الداخلية أكثر من أي وقت. ولكن يبدو أن بقاء النظام في السلطة هو الأولوية المقدّمة على أي شيء، ولو على حساب قضية نهر النيل، لن تعصف بالنظام من السلطة، بل ستعصف بالدولة ومستقبلها.