مصر في تسارع الأزمات الإقليمية
مع تصاعد الأزمات في دول الجوار، اتّجهت السياسة المصرية إلى احتواء التداعيات، ويضفي تصاعد الأزمة ما بين إسرائيل وإيران بعداً جديداً في النظر الإقليمي للأزمات، وخصوصاً مع تداخل الأزمات في ليبيا، السودان، فلسطين والبحر الأحمر، ما يثير النقاش بشأن انتقال الموقف المصري من التحوّط الفردي للتنسيق الجماعي لخفض التهديد أو بناء الثقة مع الفواعل الإقليمية عبر التشاور حول الأمن الإقليمي، وهنا تبدو أهمية الاقتراب من تناول السياسة الخارجية مع التغيرات المتسارعة في الأمن الإقليمي.
من وجهة أساسية، تُمثل التقلبات السياسية اختباراً لقدرة مصر على التكيّف مع التغيّرات العنيفة في الشرق الأوسط، فهي لم تقتصر على التتابع الزمني، بل لازمها تعدّد الأبعاد ما بين انتشار الحرب الأهلية والانقسامات الدينية والعرقية، لتشكّل مناخاً لخلافاتٍ مديدة، ضاعفت العوامل الخارجية من أثر الأعباء الأمنية والهجرة. وقد تضافرت هذه العوامل في تشكيل بيئة مضطربة، تتمثل ملامحها في انتشار المنظمات المُسلحة في ليبيا والسودان وتضاعف كميات السلاح الوارد للمنطقة مع اندلاع العدوان على غزّة، فبالإضافة إلى دخول السفن الحربية إلى البحريْن المتوسط والأحمر، عملت الولايات المتحدة على ضمان تفوّق إسرائيل بتعويضها خسائرها من السلاح وإتمام صفقات سريعة لنقل سِربي طائرات إف 35 وإف 15 لزيادة القدرات الهجومية لإسرائيل.
ولغياب التنسيق الكافي للتعامل مع هذه التهديدات، فضّلت مصر اتّباع سياسة الاحتواء ومنع انتقال الحرب إلى أراضيها، وقد حقّقت نجاحاً نسبياً في هذا الاتجاه عندما شاركت أو رتبت لعقد مؤتمرات دولية، لكنها لم توفّر حلاً كافياً لتهدئة الأزمات، بقدر ما ساعدت على تكوين إطار محدود للاتصال لخفض تأثير العوامل الخارجية على الأمن الذاتي أو الإقليمي. وفق سياقات التداخل، تبدو عملية ترتيب حِدة التهديد وأولويات التعامل أكثر تعقيداً.
تجنّبت مصر صرف الأنظار عن الجدل بشأن مستقبل غزّة عندما طرحت موقفها من مفهوم "اليوم الحالي" واعتبرته أكثر أولوية من البحث عن "اليوم التالي"
وبينما ينظر الخطاب المصري إلى فلسطين مركزاً للسياسة العربية، فإنه يرى أن تأثير الأزمات الأخرى لا يقلّ أهمية، ليس لاعتبارات الجوار الجغرافي فقط، ولكن لتضاؤل فرص الاستقرار في المستقبل القريب، فقد أدّت تلك الأزمات إلى انهيار الإدارة المدنية وعُلو المنظمّات المسلحة، بحيث صار المناخ السياسي أكثر جاذبية للفلتان الأمني والانهيار السياسي، فقد تحوّلت الأزمات إلى مشكلات هيكلية في كلٍ من ليبيا، السودان والأراضي الفلسطينية.
ورغم هذه القيود والاضطرابات، اتّجهت مصر إلى دعم حكومات الجوار لتكون مُمثلة قانونية. وبجانب تثبيت الاعتراف بالحكومة السودانية (مجلس السيادة) ممثلاً للدولة حتى التوصل لحل سياسي، وفق بيان قمة القاهرة في 13 يوليو/ تموز 2023، اتّجهت إلى توسيع الاتصالات مع الدول الأفريقية لخفض تطلعات التدخل العسكري أو تدويل الأزمة بوضع الحكومة تحت إشراف بعثة دولية. وفي هذا السياق، وفرت مصر الفرصة لتمثيل رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان السودان في الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي والقيام بزيارات رسمية لعدة الدول، بشكل ساهم في تأخير الصراع على مشروعية السلطة.
على المستوى الفلسطيني، وفي ما بتعلق بتداعيات العدوان على غزّة، اتّخذت مصر موقفاً يجمع ما بين القبول بحق الدفاع الشرعي للمقاومة الفلسطينية وحماية الحدود المصرية، بهدف تكوين حالة توازي الحشد الغربي لصالح إسرائيل. لم تقتصر فيه على تطوير التنسيق مع قطر، الأردن، تركيا والسعودية، لكنها أبدت انفتاحاً على التواصل مع إيران لضبط الصراع الإقليمي واحتواء الحرب، فقد اعتبرت مصر الانفتاح على كل الأطراف الفلسطينية توطئةً لمشروعية الحركة الوطنية وبقائها في ميدان النضال، فقد عملت مصر على إسناد كيان السلطة الفلسطينية ودعم استمرار منظمّة التحرير مظلّة سياسية وقانونية لسد الثغرات أمام محاولات تقسيم الأراضي الفلسطينية.
في ظلّ تعدّد مصادر الأزمات ولاعتبارات اقتصادية، اتّخذت مصر موقفاً دفاعياً، اتسم بتوسيع المشاورات مع الدول العربية والأفريقية
وفي وقت مبكّر، تجنّبت مصر صرف الأنظار عن الجدل بشأن مستقبل غزّة عندما طرحت موقفها من مفهوم "اليوم الحالي" واعتبرته أكثر أولوية من البحث عن "اليوم التالي"، واعتبرته جدلاً غير نزيه يخالف المنطق السليم والشرعية الدولية، ولذلك، ركزت الأولوية على وقف الحرب، واعتبرت أن كثرة الحديث عن "اليوم التالي" تُعبّر عن الرغبة بتوسيع خيارات مستقبل قطاع غزّة وتشتيت حلول القضية الفلسطينية.
وبينما اعتبرت أزمات ليبيا والسودان وغزة تهديداً مباشراً، فإنها خلصت إلى تقييمات بأن مشكلة التجارة في مدخل البحر الأحمر ومحاولة إثيوبيا الولوج إلى الساحل الصومالي أقلّ تهديداً، ولذلك عالجتها ضمن نمطين؛ تَمثل الأول في دعم بقاء دولة الصومال مُوحّدة في مواجهة التطلعات الإثيوبية في القرن الأفريقي، فيما كان الثاني متمثلاً في اعتبار تهديد "الحوثي" الملاحة أكثر تأثيراً على حرية التجارة العالمية، وبقدر أقلّ على أداء قناة السويس، ومن ثم يأتي في أولوية تالية للأزمات الأخرى.
وفي ظلّ تعدّد مصادر الأزمات ولاعتبارات اقتصادية، اتّخذت مصر موقفاً دفاعياً، اتسم بتوسيع المشاورات مع الدول العربية والأفريقية. كان الباعث الأولِّي متمثلاً في تقليل الفجوة مع التحالفات الأميركية والأوروبية، وخفض احتمال فلتان الأمن الإقليمي عبر نشوب حروب العصابات في بلدانٍ عديدة. انعكس هذا المنظور في التعامل مع حملة الرد الإيرانية، 13 إبريل/ نيسان الجاري، على اعتداء إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث استندت رؤيتها إلى أن تعدّد أطراف الحرب لا يمثل مصلحة للأمن الإقليمي بقدر ما يؤدّي إلى تحويل الأراضي الفلسطينية إلى مسرح عمليات عسكرية تمتد آثارها إلى دول الجوار.
على الرغم من مساهمة سياسة الاحتواء في امتصاص مُحفزات الصراع، تعمل التناقضات على تسهيل ظهور الأزمات بمعدّل أسرع من ملاحقة السياسة الخارجية
خلال هذه الفترة، انشغلت السياسة المصرية بتوزيع علاقاتها ما بين الولايات المتحدة وأوروبا، نتج عنه فتح المشاورات بشأن مشكلات الأمن، الهجرة والتعاون الاقتصادي. وبمرو الوقت عملت التوافقات على تَفَهم الاتحاد الأوروبي المخاوف المصرية ودعم وضعها النقدي بتسهيلات مالية (ثمانية مليارات دولار). ورغم التلاقي في الجوانب الاقتصادية، ظلت مواقف أوروبا مُتحيّزة تماماً لإسرائيل، وترى الدفاع عنها أولوية مطلقة ووحيدة. لذلك، تراجعت كل محاولات التّلَطف الأوروبية أمام محاولة إيران رد اعتبارها معنوياً. فقد تراجعت مطالب ملك الأردن ورئيسي مصر وفرنسا بوقف فوري لإطلاق النار المنشورة في صحيفة لوفيغارو في 8 إبريل/ نيسان الجاري، ليحل مكانها الحديث عن العقوبات وتطوير الصراع.
على أي حال، لم يؤدّ تتابع الاتصالات الإقليمية والدولية إلى نضج معايير مشتركة للأمن الإقليمي، فقد اقتصرت المبادرات/ الرغبة الدولية على نوعٍ من ديبلوماسيةٍ عامةٍ لا ترقى إلى معالجة العيوب الهيكلية للعلاقات السياسية، وخصوصاً ما يتعلق بظواهر تشتت واختلاف إدراك الدول لمصادر التهديد وتراخي الحاجة للتعاون، فقد تبلورت هذه النتيجة لانشغال بعض البلدان باتجاهات التطبيع مع إسرائيل ودخول مجموعة من الدول في حالة فراغٍ أمني وحربٍ أهلية، كما يحول استمرار أزمة الثقة في اندماج إيران في المصالح الإقليمية من دون التفكير في توافق استراتيجي على تعريف المخاطر المشتركة.
على أي حال، تفيد السياقات الجارية بأنه على الرغم من مساهمة سياسة الاحتواء في امتصاص مُحفزات الصراع، تعمل التناقضات على تسهيل ظهور الأزمات بمعدّل أسرع من ملاحقة السياسة الخارجية، حيث ترجع الأزمات إلى تناقضات هيكلية، لا تقتصر على الطبيعة العولمية للقضية الفلسطينية، لكنها تمتد إلى خلافات دينية وتنافسية مذهبية، أضعفت فرصة بناء تحالفات دائمة. ولذلك، تقف السياسة الخارجية والدفاعية أمام تحدّيات مستمرّة، يمكن حلها، جزئياً، من خلال تفاهمات مع بعض الدول حول الحد الأدنى من الأمن القومي.