مصر وإيران ومعضلة الطرف الثالث
أحد الإشكالات الحقيقية التي حكمت العلاقات المصرية ـ الإيرانية خلال العقود السبعة الأخيرة، وتحديداً منذ عام 1952 وما شهده من تحوّل سياسي في مصر، هو دور بعض الدول التي شكلت أطرافاً ثالثة كان لها تأثيرها على مسار هذه العلاقات، رغم ما شهدته هذه العقود من تحولات يمكن وصفها بالاستراتيجية، مثل انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، وانقلاب 19 أغسطس 1953 في إيران، وثورة يناير الإيرانية 1979، ثم الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988)، ثم يناير المصرية 2011، وما تلاها من انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر.
ومن منظور السياسة الخارجية المصرية، مرّت مصر خلال هذه العقود السبعة بعدة مراحل، استناداً إلى من يحكم فيها، الأولى هي الفترة الناصرية (1954 ـ 1970)، وفيها كان الطرف المؤثر هو الولايات المتحدة التي كانت خلال تلك الفترة حليفاً استراتيجياً لنظام الشاه في إيران، في وقت كان النظام المصري أقرب إلى الكتلة الشرقية وقطبها السوفييتي.
المرحلة الثانية فترة السادات (1970 ـ 1981)، وكان الطرف الثالث هو الولايات المتحدة، ولكن مع تغير المقاربات، حيث أصبح السادات أقرب إلى المعسكر الغربي الذي ينتمي إليه نظام الشاه في إيران، وتعدّدت العلاقات والزيارات والمساعدات الإيرانية لمصر خلال تلك الفترة، حتى وقوع الثورة في إيران، وتبنّى السادات مواقف سلبية تجاه الثورة والنظام الجديد الذي أفرزته، إلى درجةٍ دفعته لتقديم الدعم العسكري واللوجيستي للنظام العراقي في حربه ضد إيران التي بدأت عام 1980.
تعاظم تأثير الإمارات على النظام المصري في عديد من ملفات سياسته الخارجية، ومنها الإيراني
وبعد اغتيال السادات وتولّي حسني مبارك السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 1981 سار على نهج السادات في آخر عامين من حكمه، حيث استمرّ في دعم نظام صدّام حسين في حربه ضد إيران، حتى كان الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس/ آب 1990، ووقوف مبارك ضمن منظومة الدول الخليجية، في مواجهة الغزو، وتبنّت هذه المنظومة نهجاً احتوائياً لإيران حتى لا تنحاز إلى جانب صدّام في مواجهة العقوبات الغربية والحصار الذي تم فرضه عليه بسبب الغزو. وهنا ظهر طرف ثالث جديد كان له تأثيره على مسار العلاقات المصرية ـ الإيرانية ثلاثة عقود، هي فترة حكم مبارك، هو السعودية، وأصبحت سياسة مبارك الخارجية أقرب للتابع للسياسة الخارجية السعودية في هذا الملف، بجانب تأثير كل من إسرائيل والولايات المتحدة اللتين ترفضان أي تقارب مصري إيراني.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 سارعت إيران إلى الإعلان عن دعمها الثورة، وأعلن المرشد الأعلى علي خامنئي في خطبة الجمعة بطهران، يوم 4 فبراير/ شباط 2011، أن نظام مبارك كان عميلاً لإسرائيل، ودعا الجيش إلى تأييد الشعب، وألقى الخطبة باللغة العربية. وبعد نجاح الثورة المصرية في إسقاط مبارك ظهرت درجة من الاستقلالية في السياسة الخارجية المصرية تجاه إيران. ومع توليه الحكم في مصر في يونيو/ حزيران 2012 زار الرئيس الراحل، محمد مرسي، طهران في أغسطس/ آب 2012 للمشاركة في أعمال قمة عدم الانحياز، كما زار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مصر في فبراير/ شباط 2013، وتعدّدت اللقاءات بين المسؤولين والوفود الاقتصادية. ودعا مرسي إلى تشكيل اللجنة الرباعية التي تضم كلاً من مصر وإيران وتركيا والسعودية لإدارة الأزمة السورية. ولكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، بسبب الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في يوليو/ تموز 2013، لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة يناير، ويتعاظم تأثير الأطراف الثالثية على العلاقات المصرية ـ الإيرانية، والتي تمثلت خلال السنوات العشر بين 2013 و2023 في كل من السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة بجانب الإمارات التي تعاظم تأثيرها على النظام المصري في عديد من ملفات سياسته الخارجية، ومنها الإيراني.
الاتصالات الأمنية المصرية - الإيرانية لم تتوقف بينهما، بعدة أشكال وعلى مستوياتٍ عديدة
ورغم عدم وجود أية موانع حقيقية تحول دون تعزيز العلاقات المصرية ـ الإيرانية خلال مرحلة ما بعد الانقلاب، إلا أن تبعية النظام المصري لهذه الأطراف كانت الحائل المهم، فالاتصالات الأمنية لم تتوقف بينهما، بعدة أشكال وعلى مستوياتٍ عديدة، كما حدث في يوليو/ تموز 2021 وأسفرت عن بعض التوجهات، في مقدمتها عدم الإساءة لأطراف البلدين، أو انتهاج خطاب سياسي أو إعلامي هجومي، وصدور تعليماتٍ من جهاز الاستخبارات العامة إلى وسائل الإعلام المصرية، بوقف عرض أيّ مواد تسيء لإيران وأذرعها في المنطقة، مع ضبط السياسات التحريرية تجاهها، سعياً نحو احتواء النشاط الإيراني في منطقة البحر الأحمر واليمن، ومدى تقاطعه مع المصالح المصرية، وكذلك تأمين الشركات المصرية التي تشارك في عمليات إعادة الإعمار في العراق.
وفي يناير/ كانون الثاني 2022 صوّتت مصر لصالح الموقف الإيراني، إذ رفضت قراراً أممياً يدعو إيران إلى احترام حقوق الإنسان لجميع مواطنيها، كما عقد لقاء أمني خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي عُمان، في شهر يوليو/ تموز 2022 جمع مسؤولين مصريين وإيرانيين، وتكرّر اللقاء في القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بين رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء عباس كامل، ونائب الرئيس الإيراني، ورئيس منظمة حماية البيئة الإيرانية (علي سلاجقة) الذي زار مصر للمشاركة في قمة المناخ (كوب 27) في شرم الشيخ المصرية.
كذلك أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن هناك لقاءً عابراً جمع السيسي مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في عمّان في 20 و21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، على هامش قمة بغداد - 2. وقال الأخير إن بلاده لا ترى مشكلة في بناء علاقات مع مصر، مشيداً بمحادثاته مع نظيره المصري سامح شكري. كما تطرق كنعاني إلى اقتراح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بشأن تسهيل المحادثات بين إيران ومصر، قائلاً إن طهران "ترحب بأي خطوات إيجابية من أجل العلاقات الإيرانية ـ المصرية"، لكن القاهرة ربطت ذلك بوجود "ضوء أخضر خليجي" و"نجاح جهود بغداد في الوساطة بين طهران والرياض"، وهو ما يؤكّد فرضية الطرف الثالث وتأثيره على علاقات الدولتين.
مصر الدولة تمتلك من الإمكانات والقدرات، إذا أُحسِنت إدارتها وامتلكت إرادتها، ما تستطيع به التأثير في كل ملفّات المنطقة
وفي 13 مارس/ آذار 2023، أعاد ناصر كنعاني طرح الدعوة لاستئناف العلاقة بين الجانبين، وخاصة أنه قد تم توقيع اتفاق عودة العلاقات السعودية الإيرانية في العاشر من مارس 2023، مشيراً إلى أن "مصر دولة مهمة في المنطقة، وكلا البلدين يعتقدان بأهمية الآخر في المنطقة، والمنطقة بحاجة لدورهما"، وظهر رد فعل إيجابي مصري على هذه الدعوة، تمثل في إعلان وزارة السياحة والآثار المصرية منح تسهيلات وتأشيرات دخول للسياح الإيرانيين القادمين إلى مصر، ضمن ثماني جنسيات أخرى، في إطار امتيازات التأشيرات التي تقدّمها الدولة لتشجيع السياحة.
وفي إطار الاعتبارات السابقة، وما شهدته العلاقات المصرية ـ الإيرانية من تحوّلات، يمكن القول إن الخلل البنيوي الذي تعاني منه عملية صنع السياسة الخارجية المصرية، والذي بدأ مع بداية الستينيات من القرن العشرين، ثم تنامى في عهد السادات وترسخ في عهد مبارك، وتجذّر في عهد السيسي، سيستمر في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها النظام السياسي في مصر، وإن هذا الخلل من شأنه بعد السياسات التطبيعية التي تبنّتها معظم الدول الخليجية مع إيران أن يترتب عليه عدة نتائج أساسية.
أولاها أن النظام الحاكم في مصر فقد ورقة من الأوراق التي كان يتعامل معها على أنها يمكن أن تشكل أداة من أدوات الضغط على بعض النظم الخليجية، وهي فزّاعة إيران، والتي حاول التلويح بها في عدة مناسبات سابقة بين 2013 و2023، وثانيتها أن النظام سيصبح أكثر تبعية في سياساته الخارجية، وسيكون الطرف الثالث أكثر تحكّماً وتأثيراً وفعالية في علاقات النظام مع إيران على المدى القريب، في ظل قابليته للخضوع للضغوط بسبب أزماته الراهنة. وثالث هذه النتائج أن التحوّلات التي تشهدها المنطقة، بل والعالم، تفرض على النظام، في ظل هشاشته الاقتصادية، أن يقبل في حالاتٍ كثيرة بما يُملى عليه من سياسات، وأن هذه الراهنية وتلك التبعية لا مجال للخروج منهما طالما استمر هذا النظام قائماً وطالما استمرّت سياساته الداخلية والخارجية على ما هي عليه، إلا إذا امتلك درجةً من الإرادة السياسية التي تدفع به للمناورة بورقتي الصين وروسيا، وحاجة هاتين الدولتين إلى مصر الدولة وموقعها الاستراتيجي في إدارة التحوّلات على قمّة النظام الدولي، وخصوصاً في ظل ما شهده الدور الصيني من تمدّد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وما تعاني منه الإدارة الأميركية الراهنة من ضعف، خصوصاً أن مصر الدولة تمتلك من الإمكانات والقدرات، إذا أُحسِنت إدارتها وامتلكت إرادتها، ما تستطيع به التأثير في كل ملفّات المنطقة.